اغتيال السفير الروسي... الجريمة والعقاب

اغتيال السفير الروسي... الجريمة والعقاب

تحليل وآراء

الخميس، ٢٩ ديسمبر ٢٠١٦

خالد عبد الآخر
بينما يخاطب جمهوره بأحد لقاءاته الانتخابية في أزمير، وجّه أردوغان كلامه لزعيم المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو: «لا داعي لأن تخجل من هويتك العلوية يا كليتشدار، أعلنها للناس فالأمر ليس محرجاً، أنا سني وأعلن هويتي». مع هذه اللغة الطائفية التي يستخدمها أردوغان من وقت إلى آخر ويوظفها وفقاً لاحتياجه، ليس من المستغرب أن يتم اغتيال السفير الروسي بيد شرطي تركي، وأن نسمع من القاتل هذه «الخطبة القصيرة» التي تحمل أدبيات وأفكار تنظيم القاعدة، بعد تنفيذه عملية الاغتيال.
بل السؤال هو: كم شرطياً وعنصراً آخر بالأجهزة الأمنية وغير الأمنية يحمل أفكار وقناعات قاتل السفير الروسي نفسها؟ إجابة هذا السؤال تخصّ أردوغان والمعارضة التركية، لكنها بالتأكيد لا تعني بوتين. فالسؤال الذي يهتم بوتين بإجابته هو: كيف يؤثر حادث الاغتيال هذا على سلوك أردوغان في الأزمة السورية؟
الصخب كان السمة الرئيسية التي ميزت حادث اغتيال السفير الروسي في أنقرة. دوي رصاصات القاتل، وقائع الحادث، تعليقات الصحف والفضائيات، الجدل حوله بين مستهجن وشامت أو حتى مستهجن شامت، كل ما يتعلق بالحادث كان صاخباً عدا شيئاً واحداً اتسم بالهدوء: رد الفعل الروسي الرسمي.
عام يفصل بين واقعة إسقاط مقاتلة روسية بنيران مقاتلة تركية في أجواء سوريا، وواقعة اغتيال السفير الروسي في أنقرة. ما جرى على أرض سوريا خلال هذا العام كان كفيلاً بتغيير الظرف السياسي المصاحب لكلٍ من الواقعتين، هذا الفارق انعكس على رد الفعل الروسي «المدروس» الذي أتى حاداً عقابياً في الأولى، هادئاً متريثاً في الثانية.
تحقيق تفوّق استراتيجي دائم أفضل من التباهي بانتصار تكتيكي لحظي
الأمر لا يتعلق بتقارب أو تباعد بين موسكو وأنقرة، بل بتقاطع أو تناقض المشروعين على أرض سوريا. اندفعت معظم التعليقات والتحليلات لتؤكد أن الحادث سيزيد من التقارب بين موسكو وأنقرة، وأن الأخيرة ستقدم للأولى تنازلات ضخمة بالملف السوري كترضية واعتذار عن تقصيرها في حادث الاغتيال الذي وقع على أرضها. إلا أنه من المبكر جداً الجزم بصحة هذه التقديرات، حيث لا يوجد عملياً ما يشير إلى صحتها حتى الآن على الأقل. أن توافق أنقرة على إشراك فريق تحقيق روسي في حادث اغتيال سفير روسي على أرضها، فهذا تصرف طبيعي في حادث كهذا بهذا الحجم، ولا يعدّ تنازلاً أو مؤشراً على تنازل مرتقب. فالأرجح أن سلوك المراوغة والتنصل من المسؤولية الذي مارسه المسؤولون الأتراك بعد حادث إسقاط المقاتلة الروسية، سيتكرر هذه المرة أيضاً بعد حادث اغتيال السفير الروسي. لكن مع فارق وحيد هذه المرة، يتمثل في غياب لهجة التحدي الاستفزازية التي اتسمت بها التصريحات التركية في المرة السابقة. الآن تصبح المقارنة ضرورية بين الحالتين، لوضع الأمور في سياقها من خلال ترتيب ما حدث لاستقراء ما قد يحدث.
خطايا أردوغان
مسؤولية تركيا عن إسقاط المقاتلة الروسية كانت مباشرة في القرار والفعل. فلا يمكن إسقاط مقاتلة روسية بأجواء سوريا من دون قرار سياسي مسبق من نظام أردوغان يتيح للجيش الإقدام على فعلٍ بهذه الخطورة، وهذا ما أكده داوود أوغلو لاحقاً الذي أعلن مسؤوليته عن أمر إسقاط الطائرة، فضلاً عما ورد في تسريبات ويكيليكس حول صدور هذا الأمر بقرار من أردوغان. وأما الفعل فقد نفذه طياران بالجيش التركي. لكن هذا كله، وأثر محاولة الانقلاب الفاشل بتركيا في يوليو الماضي، لم يمنع نظام أردوغان - الذي ظل لثمانية أشهر يتباهى بإسقاط المقاتلة الروسية - من توجيه اتهام مفاجئ للطيارين بالانتماء إلى «حركة الخدمة» التابعة للمعارض فتح الله غولن، واعتقالهما بتهمة المشاركة في الانقلاب الفاشل. منذ ذلك الوقت لم يرد أي خبر أو معلومة عن هذا الأمر أو عن محاسبة الطيارين (المعتقلين حتى الآن) على إسقاط الطائرة، وإلى الآن يتبنى الإعلام التركي هذه الرواية وكأنها صارت مُثبَتة ورسمية لدى الطرف التركي.
أما مسؤولية تركيا عن اغتيال السفير الروسي فهي قائمة أيضاً، وإن كانت غير مباشرة. حيث لا يمكن اتهام نظام اردوغان بالتخطيط لاغتيال السفير، وإنما بالتقصير في توفير الحماية الأمنية الكافية. لكن الأهم هنا، هي مسؤولية نظام اردوغان عن تسرب (أو تسريب) أفكار تنظيم القاعدة إلى داخل الأجهزة التركية الأمنية الرسمية، من خلال العناصر الموالية التي يعتمد عليها اردوغان فيدمجها بأجهزة الدولة، لمواجهة خصومه داخل نفس الدولة التي ستدفع استقرارها ثمناً لسلوكه هذا، عاجلاً أو آجلاً. عام 2014 نشرت صحيفة «حرييت» التركية خبراً عن اتهام بالتعاون مع داعش وجبهة النصرة، وجهه حزب الشعب الجمهوري المعارض للحكومة، مطالباً بتفسير لصورة انتشرت على نطاق واسع على الانترنت وتظهر علاج أحد قادة داعش في مستشفى ولاية هاتاي بعد إصابته في ادلب. واتهام آخر وجهه مفتي تركيا السابق احسان أوزكس (كان وقتها نائباً بحزب الشعب الجمهوري قبل أن ينشق عنه لاحقاً ويتقرب من اردوغان) للحكومة باستضافة مقاتلين ينتمون إلى القاعدة في بيوت الضيافة الدينية بولاية هاتاي، بناء على تعميم صدر من وزير الداخلية التركي السابق معمر غولر بوثيقة رسمية مذيلة بتوقيعه إلى محافظ الولاية. صورة الوثيقة ظهرت منذ أيام في صحيفة «زمان» التركية، حيث نشرتها إثر اغتيال السفير الروسي. كما نشرت الصحيفة نفسها موضوعاً مفصلاً عن استعانة نظام اردوغان بقوات شبه عسكرية تسمى «قوات أسد الله» في ظل تجاهل الحكومة لمطالب نواب المعارضة في إجراء تحقيق عن هذه القوات، التي شبهتها الصحيفة بأنها «ذراع جبهة النصرة في أجهزة الأمن التركية».
لكن نظام أردوغان كرّر الاتهام نفسيه وادعى انتماء منفذ عملية الاغتيال لجماعة غولن، برغم أن هذا الشرطي كان مفصولاً وعاد إلى العمل في نوفمبر الماضي بعد خضوعه لتحقيق أكد براءته من التورط في الانقلاب. المدهش هذه المرة أن الاتهام أتى مباشرة على لسان أردوغان ووزير الخارجية قيادات الدولة التركية، وقبل أن يمر على حادث الاغتيال يوم واحد فقط! أي أن تركيا ضربت بعرض الحائط التحقيق الذي سيشارك به الروس، وقررت حسم القضية سياسياً وتوظيفها في محاولاتها لاستعادة فتح الله غولن من واشنطن التي سخرت من اتهامات أنقرة لغولن فوصفتها بالمضحكة والسخيفة. أما الرد الروسي فأتى مقتضباً: «لننتظر نتائج التحقيق».
استراتيجية بوتين
تحقيق تفوق استراتيجي دائم أفضل من التباهي بانتصار تكتيكي لحظي. هكذا يفكر بوتين، وعلى هذا الأساس يحدد رد فعله. فما يهم بوتين هو استثمار أخطاء اردوغان وليس هزيمته أو فضح عجزه. وطالما استمر النجاح الروسي في توظيف الأخطاء التركية، فلا مانع لدى بوتين من أن يستمر اردوغان في التهرب من المسؤولية «قولاً» لأنه يدفع الثمن «فعلاً». في الواقع لم يحدث من قبل أن قدم اردوغان اعتذاراً عن جريمةٍ ارتكبها إلا تحت تأثير عقابٍ تلقاه. كما لم يقدم اردوغان - الذي لا يفهم إلا لغة القوة - أي تنازل لروسيا في الأزمة السورية، وفي الغالب لن يفعل. فما حدث بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية، هو أن روسيا اعتبرت الحدث بمثابة «جريمة» تستحق «العقاب» الذي أتى مزدوجاً: اقتصادياً وعسكرياً. نجح بوتين في إجبار اردوغان على الاعتذار بعد سلسلة من العقوبات الاقتصادية ضد تركيا ألحقت خسائر بتجارتها الخارجية، فضلاً عن تجميد مشروعين ضخمين للطاقة هما مفاعل أكويو النووي وخط غاز ترك-ستريم. فالتصالح الروسي ــ التركي لم يأت بسبب الموقف الروسي الداعم لأردوغان ضد الانقلاب الفاشل في تركيا، بل بدأ قبله. فقد أرسل أردوغان اعتذاره عن إسقاط المقاتلة الروسية إلى بوتين قبل الانقلاب بشهر على الأقل، ولقاء وزيري خارجية البلدين في سوتشي كان سابقاً للانقلاب بأيام. أما العقاب العسكري فكان تصعيداً روسياً في الحرب السورية (بجهات الشمال والساحل تحديداً) وفرض معادلات ميدانية جديدة أثمرت – بعد عام - نصراً مفصلياً، هو تحرير حلب الذي يشكل أكبر خسارة استراتيجية للمشروع التركي الإقليمي. من المضلل جداً وصف العلاقة الروسية ــ التركية المستجدة بكلمة «تحالف». حيث لم تتعاون تركيا مع روسيا في حلب أو في أيٍ من جبهات الحرب السورية، بل على العكس فعلت كل ما بوسعها لإجهاض كل تقدمٍ روسي، وفشلت. كما أن تركيا التي تواجه الآن عقبات في حملتها العسكرية بمحيط مدينة الباب، وتحتاج إلى الدعم الجوي بعد أن خسرت من جنودها خلال أيام ما لم تخسره روسيا خلال عام، لم توجه نداء الاستغاثة للطيران الروسي بل لطيران التحالف الأميركي. تركيا كانت وستظل عضواً بالناتو الذي تأسس أصلاً لغرض وظيفي رئيسي هو منع تمدد موسكو، وأواصر التحالف العضوي بين أنقرة وواشنطن لن تفكها خلافات هامشية مؤقتة، تتعلق برفض واشنطن تلبية رغبة اردوغان الهوسية في استعادة غولن لاستكمال خطته في القضاء على حركة الخدمة.
ليس من المرجح أن تقدم تركيا لروسيا تنازلات في الأزمة السورية، على سبيل الاعتذار عن جريمة اغتيال السفير الروسي في أنقرة. أما العقاب الروسي (بحال رفضت تركيا التخلي عن جبهة النصرة) فسوف يطال المشروع التركي في سوريا وسيكون ميدانياً على الأغلب، وضد النصرة تحديداً، لكنه سيظل مؤجلاً إلى حين زوال تقاطع المصالح الجزئي والمؤقت بين البلدين في سوريا. تركيا نجحت في إنقاذ ما تبقى من مرتزقتها من الفناء في حلب، لتوظفهم في جبهات أخرى بسوريا حتى يحين موعد الحلول النهائية. وروسيا نجحت في فرض إرادتها عبر تقزيم طموحات خصومها، ورسم إطار عام لن يخرج عنه الحل النهائي في سوريا. لكن الوصول إلى هذا الحل النهائي، ما زال أمامه جولات من المواجهات، والهدن، والتصفيات المتبادلة - الداخلية والبينية – بين مكونات فصائل الإرهاب المعتدل وغير المعتدل. اللقاءات الثلاثية بين روسيا وتركيا وإيران لا تعبّر عن رضوخ اردوغان لرؤية خصومه، بل هي أشبه بحركة حتمية تحت تأثير قانون القصور الذاتي بعد نصر حلب، وفي نفس اتجاهه. لكن هذه الحركة سوف تتباطأ حتى تتوقف بفعل عوامل الاختلاف المتعددة بين أطراف التفاهمات التي تسعى روسيا لإنجازها، مستغلة تجمّد الدور الأميركي بالفترة الانتقالية في البيت الأبيض، لتفرض أفضل وضع سياسي يلائمها قبل الجولات السياسية والعسكرية القادمة... والجميع في انتظار ترامب.
* كاتب مصري