«أستانا» ملغية لجنيف أم مكمّلة له؟.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

«أستانا» ملغية لجنيف أم مكمّلة له؟.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٠ ديسمبر ٢٠١٦

شيئاً فشيئاً تتكشف مفردات الأحجية التي طرحت منذ مطلع هذا الشهر الجاري وبقيت من دون حلّ حتى إذا ما تمت مقاطعة الخطوط أمكن أن نحصل على حلول افتراضية ما سنحاول العمل عليه هنا ونحن إذ نحاول أن نفعل يمكن لنا رسم المشهد التالي عشية انهيار 15/12 المدوّي الذي يحمل الكثير من الدلالات والمؤشرات.
في 10/8/2016 التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره التركي (أردوغان) في سان بطرسبورغ بعد قطيعة دامت ما يزيد على ثمانية أشهر (منذ إسقاط الطائرة الروسية في سورية 24/8) كان أردوغان في ذلك اللقاء يبحث عن ملاذ آمن يقيه من التراشق الذي كان يأتيه من كل حدب وصوب، آنذاك كتب- وحكي- الكثير عن وجود متغيّر تركي فيما يخص الأزمة السورية وطبيعة التعاطي معها، ثم بدأت التكهنات في تخمين إلى أي مدى يمكن أن يصل إليه المتغير التركي؟ إلا أن الثابت الوحيد المؤكد كان في أن «المصالحة» الروسية- التركية قد قامت على ركائز محددة كان محورها «الأزمة السورية» حيث سيعلن الرئيس الروسي في مؤتمر صحفي عقده في أعقاب لقائه نظيره الياباني في طوكيو 16/12 ويقول: «حسبما أرى فإن كل شيء يجري بالتوافق مع الاتفاقات بما في ذلك الاتفاقات مع الرئيس التركي خلال زيارته إلى سان بطرسبورغ» ثم أضاف: «اتفقنا (يقصد في تلك الزيارة) على أن تركيا سوف توفر كل مساعدة ممكنة بالنسبة لإزالة هؤلاء المسلحين المستعدين للاستسلام في حلب».
من يرقب الأحداث فسيجد أن أنقرة لم تستجب لنداءات الإغاثة التي كانت تطلقها الفصائل المسلحة منذ أيلول فصاعداً الأمر الذي أرخى بظلال «مقبولة» على علاقة دمشق بها حتى إن هذي الأخيرة قد ذهبت إلى حدود القول (بعد درع الفرات) إنّ حزب الاتحاد الديمقراطي PYD ما هو إلا امتداد لحزب العمال الكردستاني PKK.
كانت درع الفرات بشكل ما تمثل انقلاباً جذرياً على التفاهمات التركية السعودية الحاصلة في آذار 2015 بعد أن قبلت الرياض بـ(الإخوان المسلمين) المرغوبين تركياً الأمر الذي أتاح الدخول في تحالف مرحلي نتج عنه (جيش الفتح) الذي أعلن عنه 24/3/2015.
في تلك الآونة كانت العلاقة الأميركية التركية هي أقرب ما تكون إلى علاقة تنافسية في سورية وفي الغضون كان كل من الطرفين يحاول كسب أوراق جديدة للضغط على الآخر إلا أن تلك العلاقة كانت قد انقلبت في أعقاب الانقلاب التركي الفاشل 15/7 الذي اتهمت أنقرة الأميركان بالضلوع فيه، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه فواشنطن لم «تفطن» لأن تعلن عن وقوفها إلى جانب الدولة التركية ومؤسساتها إلا في اليوم التالي 16/7 أي بعد فشل الانقلاب الذي لم يستمر لأكثر من خمس ساعات، تلك الصورة الضبابية هي ما يفسر إصرار واشنطن على حماية جبهة النصرة بعد أن أضحت هذي الأخيرة الذراع الوحيدة التي تمارس واشنطن بها نفوذها على الأرض حتى إن هذه الأخيرة سارعت إلى نسف اتفاق جون كيري لافروف 9/9/2016 الذي لربما كان في لحظة «تخلٍّ» سياسية للوزير الأميركي ولربما لعبت هذه الحادثة الأخيرة دوراً مهماً في المماطلة التي شهدناها في حلب الشرقية فرهان النصرة- كما يبدو- كان حتى اللحظات الأخيرة يقوم على أن الرافعة الأميركية لن تدعها تسقط ولسوف تنتشلها حتى ولو في الثواني الأخيرة.
عندما حضر باراك أوباما القمة الخليجية التي انعقدت في الرياض 20/4/2016 تأكد لدول الخليج أنها قد دخلت مرحلة انكشاف إستراتيجية خطرة بعد غياب المظلة الأخيرة التي حاول هؤلاء استبدالها مؤخراً ببريطانيا في القمة الخليجية الأخيرة في المنامه 6/12/2016 وإذا ما نظرنا إلى ما «تأكد» لتلك الدول وسط حالة تردٍ مالي قصوى زادت حدتها عبر «الالتزامات» الخليجية بـ«نصرة الشعوب العربية» تبين لنا أن القرار السياسي الخليجي قد بات محكوماً بفكي كماشة لا فكاك منهما، حتى إذا ما أقرّ الكونغرس الأميركي قانون «جاستا» 27/9 رغم الفيتو الرئاسي ضده والطريقة الفاقعة التي حدث بها ذلك الإقرار (في مجلس الشيوخ الأميركي صوّت عضو واحد ضد إقرار القانون) وما كشفته من أن «التركيبة» الخليجية برمتها قد باتت مكروهة على المستويين الشعبي والنخبوي في الغرب وما بينهما من قوى فاعلة فيه، لتأتي فيما بعد نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أعلن عنها 9/11 والتي كانت بمثابة الشعرة التي قصمت البعير الخليجي الأمر الذي يفسر الانكفاءة السعودية (والخليجية) التي تبدت في أولى محطاتها في انتخابات الرئاسة اللبنانية 31/10 على حين إن محطتها الثانية كانت في سورية وتحديداً في الموقف من أزمتها الراهنة. تنقل كاتبة لبنانية (+أميركية) مقربة سعودياً بدرجة كبيرة عن أحد السياسيين السعوديين المخضرمين (كما اسمته) قوله في مؤتمر لمؤسسة «فكر» كان قد انعقد في أبو ظبي مطلع الشهر الجاري: «يجب علينا أن ننكمش في موضوع سورية» ثم تضيف (نقلاً أيضاً): «إن تدخلنا في سورية كان خطأ» و«هو ينمّ عن سياسة خرقاء» قبل أن تختم: «نحن لسنا مسؤولين عن كل العرب» وما سبق كافٍ لأن يكون رؤية سعودية صادمة لجهة انقلابها 180 درجة، إذ هل يعقل لصانع قرار (أو الناقل عنه) أن يقول إن قراراته كانت خاطئة ومع ذلك استمر فيها ست سنوات؟
ثم يقول إن بلاده ليست مسؤولة عن العرب وكأني بهؤلاء قد فوضوها بتحمل مسؤولياتهم على أكتافهم! مع الإشارة هنا إلى أن المسؤولية تعني تصدير القتل والتدمير والتطرف. عشية انطلاق معركة تحرير حلب 20/11/2016 كانت تلك هي التوازنات القائمة ولربما يمكن أن نضيف إليها موقف الاتحاد الأوروبي الذي قالته فريد ريكا موغريني للمعارضة السورية 2/12/2016 إن «الاتحاد الأوروبي لا يرى أن خيار تنحي الأسد هدف واقعي» ولربما تفسر (هذه الصورة) سلسلة الانهيارات الحاصلة التي لم تقف بعد ولا مقدراً لها أن تقف عند الحدود التي وصلت إليها، وهي (تلك الصورة) كانت قد أرخت بظلالها الثقيلة على اجتماع «النواة الصلبة» لأصدقاء الشعب السوري الذي انعقد في باريس 16/12 بغياب السعودية والإمارات لنجد جون كيري يصر على إجبار الفصائل المسلحة على الخروج من حلب الشرقية من دون قيد أو شرط، على حين أن فرانسوا هولاند قد ذهب إلى التنصل من تهمة تخليه عن المسلحين السوريين مؤكداً «أن من فعل ذلك هو غيره (غير هولاند) بالتأكيد»!!
وفي النصف الثاني من اللوحة كانت الصورة مغايرة تماماً وعندما امتحنت الصلابة الروسية لمرتين متتاليتين (5/12-9/12) تأكد أن موسكو ليست في وارد إظهار الجانب اللين بعد مستندة في ذلك إلى ظهير صيني بدا في الآونة الأخيرة وكأنه قد خلع عباءة التخفي ليجاهر بمواقفه تجاه تطورات الأزمة السورية ولربما كان ذلك بفعل «الأيغور الصينيين» والخشية الصينية من قيام الغرب باللعب على المكون الإسلامي الصيني كما فعل في الشيشان أواخر القرن المنصرم.
الآن: لم يكن مفاجئاً إعلان بوتين عن المضي قدماً بالعملية السياسية لتسوية الأزمة السورية إلا أن المفاجئ كان ما أعلنه أيضاً من طوكيو 16/12 عن أن أنقرة وموسكو سترعيان مفاوضات سورية في العاصمة الكازاخستانية الأستانا، وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي كان قد حاول التأكيد بأن هذا المسار ليس بديلاً من مسار جنيف بل مكمل له إلا أن الهدف واضح وهو إنتاج مرجعية جديدة منقطعة مع جنيف وهي تناسب المستجدات على الأرض وهي تقوم أساساً على أرضية تركية وروسية مع استبعاد تام للأميركان والاتحاد الأوروبي وللخليجيين وكذلك لإيران على الرغم من المحاذير المترتبة على استبعاد هؤلاء وخصوصاً الأميركان.
مهما يكن من أمر فإن روسيا العظمى قد عادت إلى الساحة الدولية بقوة ومن الأزمة السورية التي باتت حبلى بجنين النظام الدولي الجديد والراجح أن المآلات النهائية لتلك الأزمة سوف ترسم أدق التفاصيل في ذلك النظام.