الانكشاريون الجدد: الأسئلة التركية والمصير المحتوم

الانكشاريون الجدد: الأسئلة التركية والمصير المحتوم

تحليل وآراء

الجمعة، ١٦ ديسمبر ٢٠١٦

 عبد المعين زريق

لا يمكن للصورة أن تكون أوضح من ذلك، ولا يمكن لتتابع المشاهد الموحية أن يبدو أشد استدلالاً مما هو عليه الآن، فها هي الجماعات المسلحة الجهادية والفصائل الثورية وجماعات المحاربين لأغراض المخابرات، تناحرت في ما بينها على الأرض السورية طوال سنوات ما دعي «الثورة السورية» و«الربيع العربي» لإسقاط النظام السوري، ثم لتطبيق الشريعة، وصد المد الفارسي المجوسي، ودحر الغزو الروسي الصليبي.

يحق لهذه المعارضات التظاهر بالابتهاج بالتدخل التركي والتطبيل له، وأن تشكل له جموعاً انكشارية في قوافل التحرير العثمانية ــ كما تعتقد ــ وخلق أجواء ضبابية من الزوابع والغبار، بغرض تسليم وتسلم المناطق وتأمين ممر آمن لخروج «داعش» وإيجاد ظروف مواتية لتغيير الرايات والولاءات.
إن ما حدث في الشمال السوري خلال السنوات العجاف السود السابقة، من تغيير رايات المحررين (الثائرين والمجاهدين والديموقراطيين) وأمواجهم المتقلبة، وتغير من يسيطر على أعناق الناس وممتلكاتهم ومقدراتهم بين سنة وأخرى، بحيث ما إن تأخذ المنطقة صبغة «الجيش الحر» حتى تأتيها سيطرة «جبهة النصرة» ثم تلحقها وحدات الكرد، فـ«داعش»، ثم تركيا، ثم...؟ وما يرافق كل موجة سيطرة من قتل وتخريب وتهجير ودمار واستباحة كاملة، لتثبت بالدليل القاطع البيّن؛ أن ما خضعت له جرابلس وجوارها، كان المفترض والمخطط له أن يحدث في عرين سوريا في دمشق، وأن تشمل هذه الموجات الهوجاء من تغاير المسيطرين كل الجغرافيا السورية، بحيث ينام الناس على موجة سيطرة ويستيقظون (إن بقوا أحياء!) على وجوه جديدة وأفكار جديدة وأيديولوجيا قتل وإقصاء جديدة، مع ملاحظة موحية مهمة؛ أن أقواماً تعاركوا وتذابحوا وتقاتلوا وكفّر بعضهم بعضاً، وهم يدّعون الدين وتحكيم الشريعة، عندما كانوا يقاتلون الطغاة المستبدين الكفرة (!). هم سيكونون أكثر توحشاً وهمجية واستشراساً وغرائزية، وهم يقتربون من كراسي السلطة ومقاليد الحكم، الشيء الذي شهدناه في أفغانستان والصومال، ونشهده عياناً في ليبيا واليمن، وحذرنا من تبعاته الكارثية في سوريا؛ قلب العالم ومركز استقراره.
يجب على الانكشاريين الملتحقين بعسكر السلطان التروي في الإجابة عن أسئلة بديهية مهمة من مثل: لماذا تدخلت تركيا الآن في سوريا؟ وهل جاء التدخل في سياق التفاهمات مع حلفاء دمشق أم في سياق الرغبة الأميركية ومشروع الدولة الكردية؟ ولماذا رفعت الفيتوات من وجه تركيا؟ وأين ستصرف موافقة سوريا وحلفائها على التدخل التركي؟ وماذا وأين ستدفع تركيا المقابل وعلى حساب من؟! لا بد أن الإجابات ستكون صادمة لهم.

انكشاف الحالة الانكشارية لمخلّفات فصائل من «الثوار السوريين» بات واضحاً

لا يمكن لأحد ــ غير المعارضين الغرائزيين والإسلاميين الحركيين ــ أن يقتنع بأن تركيا الآن تجاوزت كل ترددها وعجزها بالمصادفة لتتدخل في سوريا، وبخاصة بعد ثلاث صدمات كبرى تلقاها إردوغان من حلفه (خذله «الأطلسي» بعد إسقاط الطائرة الروسية، ومشاركة الحلفاء بمحاولة الانقلاب عليه، ودعم الأميركان لأكثر أعدائه كرهاً وهم الأكراد ووحدات الحماية بشكل أدق). الأمر جاء ببساطة باتفاق مع التحالف السوري ــ الإيراني ــ الروسي عبر رفع الفيتو الروسي والاعتراض الإيراني والقنوات السرية بين تركيا وسوريا، أما الموافقة الأميركية فقد جاءت متأخرة واضطرارية، لكونها تعرف أن المقصود بهذا التدخل استهداف قوات الحماية الكردية ومنعها من إقامة إقليم كردي في سوريا.

منع قيام دولة كردية

برغم الخطيئة التاريخية الجسيمة التي ارتكبتها بعض الفصائل الكردية الشوفينية الانفصالية؛ باللعب على تناقضات الأزمات المشتعلة في المنطقة، وركوب قطار الأوهام الأميركي، شأنهم شأن كل ثوار الغفلة السوريين وثوار الناتو الذين جلبوا لبلداننا الخراب والقتل والدمار... برغم كل هذا، فإن ما حدث وتحت أي عناوين مضلّلة أو صفقات خفية لا يعطي جند إردوغان وانكشارييه الجدد (من منتظري المحررين الأغراب، ومن مركوبي السلطان، وكل من يقبل الانخراط في الجيوش الغريبة القادمة) «كارت بلانش» أو ورقة تفويض وسماح لاستباحة دماء إخوتنا الأكراد في شمال سوريا. يجب أن يكون تقاطع علاقات المواطنة السورية بيننا أكبر من أي تقاطعات طارئة ظرفية مع الجار الغادر، ممثلاً بحكومة إردوغان وانكشارييها. إذ إن غدر هؤلاء بسوريا أكبر بكثير من انتهازية بعض الفصائل الكردية الواهمة. إن انتهازية فصيل صالح مسلم ولعبه على حبال تناقضات المنطقة ولهاثه المحموم وراء حلم «روج آفا»، وطعنه الجسد السوري في وقت كان هذا الجسد يعاني من ألم حروب وهجمات بربرية عليه، يجب ألا يحمل كل الأكراد ــ إخوتنا في الوطن ــ تبعات هذه الانتهازية، بل يجب أن يسجل ذلك في سجل استخلاص العبر والعظات من هذه الأخطاء الكارثية في تاريخ سوريا المعاصر. وهنا يصح أن يوضع التساؤل: من هو الفصيل أو الفئة أو الطائفة أو العرق الذي لم يرتكب في سوريا خطايا كبرى؟
الحل سيكون بالإشارة الى هذه الأخطاء بجرأة وشفافية، والمصارحة عند المناقشة والمواجهة، ويجب تكريس الإيجابيات وتعزيز روح المواطنة السورية بمعانيها الراقية المتجددة، والعمل على التأكيد على حقوق المواطنة لكل الأعراق والفئات والإثنيات والطوائف، لتعزيز علاقات المشاركة والعيش المتساوي بدل نشر روح التفرقة والعنصرية، بما يجعل المجتمع السوري أرضاً صالحة لتفجر الألغام بشكل دائم، وإلا فسنكرر خطأ الفصائل الكردية ذاته باستغلال الظرف التاريخي للانتقام وقبول الاعتداء المفتوح عليهم ورميهم بغباء الى الحضن الأميركي بشكل دائم.

محاربة «داعش»: تسليم وتسلّم

نحن لن نذهب بالوهم بعيداً لنصدق أن القوات التركية دخلت المناطق الشمالية، لتحارب «داعش» الذي كان ورقة إردوغان في وجه التمدد الكردي. فنحن ما زلنا نريد إثبات وجود أي بادرة أو إشارة صغيرة أو تافهة لأي مواجهة قامت أو ستقوم بين تركيا و«داعش» في شمال سوريا (!).
ما يحدث ليس أكثر من تشكيل زوبعة من الدخان والضباب لفتح طريق مرور بغرض تسليم وتسلم من الفصائل الجهادية والإرهابية في مناطق شمال سوريا بحيث يسمح بخروج آمن لـ«داعش» بعدما فشل بمهمته أو نجح جزئياً (!)، وتأمين الظروف لتغيير الرايات والولاءات عبر جزّ اللحى أو تقصيرها.
للأسف، لم تحتمل عقول بعض السوريين الصغيرة أن تجعلهم سياسات العقود الخمسة الأخيرة سادة المنطقة، يملكون كل أوراق التفاوض والحل والربط، فأعادونا من جديد الى زمن الاستزلام، والعمل لمصالح المحاور الإقليمية ومحميات النفط ودونكيشوتات العصملية المنقرضة ولمن يدفع أكثر. وصار السوري ينتظر الأوامر وتطبيق الأحكام من الجهال الضلال القادمين من وراء الحدود مع حقائب الدولارات، ودع عنك كل هذرهم التافه عن الديموقراطية والثورة، وشعاراتهم البلهاء عن الحرية وحقوق الإنسان؛ فهذه ليست إلا مجرد حجج واهية وذرائع متهافتة وهراء رخيص.
لعل أجمل وأغرب ما جادت به قريحة وعبقرية إردوغان أخيراً؛ هو ما قاله في مؤتمر خطابي؛ من أن محاولة الانقلاب الفاشلة عليه إنما حدثت في سياق لعبة كبرى، وتهدف إلى تمزيق الشرق الأوسط وتفتيته والسيطرة على مقدراته. وكأنه ينقض غزله القديم وخطبه العصماء عن الشعوب التي قامت من أجل الحرية والمساواة ورفع الظلم ومن أجل استعادة دولة السلطنة العثمانية بأمجادها وسطوتها وانتشارها. الآن يبدو أنه يكتشف متأخراً أن ذلك جزء من مؤامرة خبيثة استخدم بها كأداة لتربية وضخ بيادق للموت فيها في ساحاتها المشتعلة. يصحو الآن وقد قرعت المؤامرة باب قلعته وهزت أركانها وزلزلت جدران قصره ومملكته الوهمية، وعليه المسارعة وقضاء ما تبقى من «حياته» في ترميم ما تهدم وفحص نيات المتربصين به وهم كثر، شأن كل سلاطين الباب العالي المنقرضين الذين قتلوا بالبارانويا المرضية أو بغدر المحيطين بهم.
المذهل في الأمر؛ استمرار المصفقين والمطبلين له من مركوبيه وتبعه وانكشارييه ومرتزقته وجوقاته المجانية من أبناء جلدتنا من منتظري المحررين الغرباء ومن اللاجئين والأخونج الواهمين.
إن الدخول التركي إذا كان من ضمن سياق التفاهمات بين تركيا وحلفاء سوريا فهو كفيل بأن يكون بدءاً لشلال من الإجراءات المرافقة أو المتتالية لحل توابع الحرب على سوريا، ومنها إيجاد حل لمشكلة تركيا في اللاجئين ومخيماتهم فيها، إذ يمكن نقلهم الى جغرافية سورية حدودية ويكونون تحت رعاية أممية بالتنسيق مع الدولة السورية، كما أن تأمين وجود جغرافي للمعارضة السورية على الحدود مع تركيا يؤمن ورقة تركية في الحل السوري، ويضيق على بعض كفلاء المعارضة السورية الآخرين.
أما إذا كان التدخل من خارج التنسيق والتفاهمات، وهو أمر غير مرجّح، فستواجه جميع الأطراف مخاطر الخطوات التالية، وهو لن يغدو إلا انخراط طرف جديد في معركة سوريا، ولن تكون رحلته إلا خسائر متتالية وغرقاً في الرمال المتغيرة، تدمير المنطقة وتجزئتها بما يهدد تركيا بحروب طويلة مع الأكراد والسوريين والعراقيين وحلفائهم.
لذا، فإن المعارضة المفلسة مضطرة إلى النوسان مع المشروع التركي والارتباط به بشكل سيامي، وستكون خاضعة لمحدداته أينما قصد واتجه، والعمل تحت سقوف تحركه: (إلى روسيا أو إيران أو إلى إسرائيل وحتى إلى عدوتهم اللدود الدولة السورية!) وبخاصة بعدما خدعت المعارضة السورية وخذلت من الجميع، ويمكن الرجوع الى بعض اعترافات المعارضين المتأخرة جداً بالخديعة (كيلو، كيلة، غليون، سيدا، صبرا، وغيرهم).
إن انكشاف الحالة الانكشارية لكثير من بقايا «الجيش السوري الحر» ومخلفات بعض الفصائل الشبيهة من «الثوار السوريين» بات واضحاً، بعد قبولها العمل المباشر تحت الإمرة التركية وسلطة البارانويا الإردوغانية، وقبولها العمل في الجنوب تحت الإمرة الصهيونية وبدعم قصفها الجوي على المواقع السورية.
إن الحالة الارتزاقية والانكشارية لما دعي مخلفات «المعارضة المسلحة» يجعل التعويل عليها بأي حل مقبل من قبل عقلاء الشعب السوري أمراً صعب المنال، ولن يكون مصيرها إلا كمصير مرتزقة أنطوان لحد، مهما اغترّت بامتلاكها القدرات العسكرية واللوجستية، ومهما استطاعت إخضاع مساحات جغرافية لسلطتها المستمدة من القوات المحتلة الغريبة (الأميركية والصهيونية والتركية). ستصيبها حتماً لعنة الشعوب الحية، وسينقى الثوب السوري مهما طال الزمن ومهما غلت التضحيات، فلا بقاء للجندرمة التركية ولا للانكشارية العصملية، والسوريون بمقاوماتهم القادمة حتماً قادرون على تنظيف سوريا من الأغراب وشذاذ الآفاق وأصحاب الأوهام المجنونة.

هل من استقراء واستشراف لأفق ما؟

بنظرة متفائلة قليلاً، يمكن النظر إلى معركة حلب المنتهية والباب القادمة، ومراقبة صرف الموافقة السورية للتدخل التركي، بحيث قد يتم سحب الجهاديين للمواجهة المستجدة في الشمال السوري، بعد إجراء التعديلات اللازمة عليهم وسحق الممانعين منهم في أرياف حلب وحماة ومدينة إدلب، وإزالة حلب من اللعبة الدولية والإقرار بسيادة الدولة السورية عليها، وبدء سلسلة الخطوات التالية للحل السوري، ولانتصار سوريا وبقائها في محورها بموقعها المهم... وبذلك تتحدد السياسات العالمية وفق مخاضات سوريا المتجددة.
* كاتب سوري