العداء الأميركي لطهران: لعنة الموقع.. بقلم: محمد صالح الفتيح

العداء الأميركي لطهران: لعنة الموقع.. بقلم: محمد صالح الفتيح

تحليل وآراء

السبت، ١٠ ديسمبر ٢٠١٦

قد يكون السؤال الأكثر تداولاً هذه الأيام، في ما يخص الإدارة الأميركية الجديدة وإيران، هو هل سيقوم ترامب فعلاً بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران؟ لم يُناقش هذا السؤال جدّيا خلال الأشهر السابقة للانتخابات الأميركية؛ فقد كان سقف النقاش في وسائل الإعلام العربية المختلفة هو هل ستصل هيلاري كلينتون فعلاً إلى البيت الأبيض؟ ولا تخفى هنا دوافع بعض الجهات الخليجية للرهان على وصول هيلاري كلينتون، وللترويج لهذا الفوز. والغالب أن رهان تلك الجهات، ووسائل الإعلام التي تدور في فلكها، دفع بعض وسائل إعلام المحور الآخر للتشكيك في حظوظ كلينتون، بل الترويج أحياناً لإمكانية فوز ترامب، من دون الالتفات لما سيكون عليه الحال لو فاز دونالد ترامب فعلاً بالانتخابات. لهذا فإن فوز ترامب لم يكن سوى الحلقة الأولى من سلسلة من المفاجآت التي تتالت مع كل مرشح يسميه ترامب لتولّي منصب ما في إدارته، من «الجمهوريين» المحافظين وصولاً للجنرالات المخضرمين. سلسلة المفاجآت هذه، بتفاصيلها التي تبدو بلا نهاية، لم تُتح المجال للتعمق في دراسة توجهات إدارة دونالد ترامب. حتى إن السؤال الذي ذكرناه بدايةً، احتمال إلغاء الاتفاق النووي الإيراني، هو سؤال تقني نوعاً ما والجواب عليه ينطلق من الحيثيات القانونية التي اُقر الاتفاق على أساسها. وتخلص الإجابات في الغالب إلى أن إلغاء الاتفاق مسألةٌ معقدةٌ للغاية. لا يلحظ هذا الجواب الدوافع المحتملة لإدارة ترامب للسعي لإلغاء الاتفاق والسيناريوهات البديلة التي قد يلجأ إليها. والتركيز على الشجرة هنا ينسينا الغابة، كما يقول المثل الإنكليزي. فالسعي لإلغاء الاتفاق هو مجرد تفصيل في مشهد أكثر تعقيداً، العداء الأميركي لطهران.
علاقة مواجهة
منذ أن سقط نظام الشاه، الحليف الأهم للولايات المتحدة يوماً ما، والعلاقات الأميركية الإيرانية في مدٍ وجزر، وإن غلب على الطرفين نزوعهما للعداء، كلٌ لأسبابه. إلا أنهما وجدا نفسيهما بحاجة للتعاون في غير مناسبة. يذكر جاي سولومون، مؤلف كتاب «الحروب الإيرانية» (2016)، أن رجال الاستخبارات المركزية الأميركية عندما حطوا رحالهم في «وادي پنجشير‎‎»، في أفغانستان، في أعقاب هجمات 9/11، بغرض دعم تحالف الشمال في وجه تنظيم طالبان، وجدوا ضباط الحرس الثوري الإيراني قد سبقوهم إلى هناك بغرض تحقيق المهمة نفسها تماماً. لهذا كان التعاون هو الخيار الأفضل وهذا ما حصل. وفي العراق أيضاً حصل تعاون آخر، على الأقل في البداية. البراغماتية التي وجدها الطرفان ضروريةً في أكثر من مناسبة، بقيت الاستثناء لا القاعدة. ففي كل مرة تتعاون فيها طهران وواشنطن يزيد ذلك من صعود نفوذ طهران الإقليمي، وهذا ما يقرب الطرفين أكثر من المواجهة المحتّمة.
لو وضعنا جانباً الخطاب العقائدي الإيراني المعادي لأميركا الذي يصفها بـ «الشيطان الأكبر»، وتمعّنا بطبيعة العلاقة الممكنة بين كل من طهران وواشنطن، فلن نحتاج إلى وقت طويل للاستنتاج بأن العلاقة الطبيعية بينهما هي علاقة مواجهة وذلك بشكل رئيسي نتيجةً لعوامل الموقع، ولكون طهران، برغم كل الديبلوماسية والبراغماتية التي تحاول ممارستها، تبقى أقرب إلى المحور العالمي المناوئ لواشنطن. في ما يخص الموقع، وجود إيران في موقع يسمح لها بالتحكم، نظرياً، بحركة الملاحة وصادرات النفط والغاز من الخليج العربي، التي تشكل عصب الاقتصاد العالمي، يجعلها خصماً طبيعياً للولايات المتحدة.
فقبل أن يمضي عام واحد على الثورة الإيرانية، أعلن الرئيس الأميركي جيمي كارتر، في خطاب حالة الاتحاد في كانون الثاني 1980، عما سيُعرف لاحقاً بـ «عقيدة كارتر»، التي تنص على حماية مصالح الولايات المتحدة في الخليج العربي، وأن الولايات المتحدة لن تسمح لأي طرف بالهيمنة على حركة الملاحة وعلى استقرار تدفق النفط من هناك. عقيدة كارتر كانت موجهةً بالطبع نحو الاتحاد السوفياتي الذي كان قد اجتاح أفغانستان قبل أقل من شهر على خطاب كارتر. ولكن من حيث المضمون والتطبيق كانت عقيدة كارتر موجهةً أيضاً ضد طموحات إيران، وظهر هذا بشكل واضح في المراحل الأخيرة من الحرب العراقية الإيرانية ضمن ما عُرف «بحرب ناقلات النفط».
خلال العقود الثلاثة التالية لإعلان كارتر التزام الولايات المتحدة بتدفق النفط والملاحة من المنطقة، يُقدر أن واشنطن قد أنفقت ما يصل إلى ثمانية تريليونات دولار. وبرغم أن إدارة أوباما قد عملت على تخفيف مستوى تورطها في المنطقة، بسبب التكلفة العالية لحربي العراق وأفغانستان، وكذلك بسبب الحاجة للانتقال إلى جنوب آسيا لمواجهة صعود النفوذ الصيني هناك، إلا أن هذه المنطقة، الخليج العربي، تبقى مهمةً للغاية بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة. تقول إحدى المغالطات التي شاع تداولها خلال السنوات الماضية، أن زيادة الإنتاج النفطي الأميركي المحلي سيقلل من اهتمام واشنطن بمنطقة الخليج وبالتالي ستكون أقل اهتماماً بالتصدي للقوى الصاعدة المناوئة لها، مثل طهران. ولكن هذه السردية مبسطة للغاية.
13انخفضت بالفعل واردات الولايات المتحدة من النفط بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية. ففي عام 2006، استوردت واشنطن 13.7 مليون برميل من النفط يومياً بينما استوردت في العام الماضي 9.4 ملايين برميل يومياً، أي بانخفاض يقارب 31 في المئة. ولكن هذه الأرقام لا تكفي للحكم على أهمية نفط الخليج بالنسبة لواشنطن. فبالمتوسط شكلت صادرات النفط من دول الخليج لواشنطن نحو 20 في المئة من مجمل الواردات الأميركية وفي ذروة تصدير النفط من دول الخليج لواشنطن (في عام 1990)، وصلت تلك الصادرات إلى 24.5 في المئة من واردات واشنطن. أما في عام 2015 فقد شكلت هذه الصادرات ما نسبته 16 في المئة من الواردات الأميركية. أي برغم أن الواردات النفطية الأميركية انخفضت عموما بمقدار كبير، إلا أن وارداتها من منطقة الخليج تغيرت ضمن هامشٍ أصغر بكثير. لا بد من الإشارة إلى أنه هناك الكثير من التبسيط في القول إن اهتمام الولايات المتحدة بتدفق صادرات النفط من الخليج يعود لاعتمادها الحيوي على تلك الواردات بقدر ما هو نتيجة لأهمية المادة نفسها واستقرار الأسواق العالمية.
وإذا ما كانت الولايات المتحدة تسعى للتصدي للصين التي تمد نفوذها في جنوب آسيا التي تعتبرها الولايات المتحدة القلب النابض الجديد للاقتصاد العالمي، فلا بد من الإشارة إلى أن تلك المنطقة تعتمد بشكلٍ حيوي على الواردات النفطية من منطقة الخليج، وينطبق هذا خصوصا على أهم شركاء الولايات المتحدة مثل الصين واليابان وكوريا الشمالية. فالصين التي تغطي نحو 20 في المئة من واردات الولايات المتحدة من البضائع التجارية المختلفة، ما تزيد قيمته عن 460 مليار دولار، تستورد 51 في المئة من احتياجاتها النفطية من منطقة الخليج العربي.
إذاً للصين مصلحةٌ كبيرةٌ في ضمان استقرار حركة تصدير النفط من الخليج إليها. هنا تجد الولايات المتحدة نفسها في وضع معاكس لما كان عليه الحال يوم رسم جيمي كارتر ملامح عقيدته. في مطلع الثمانينيات لم يكن الاتحاد السوفياتي بحاجة لنفط الخليج ولكن سيطرته على الصادرات النفطية من الخليج كانت لتمكنه من خنق الاقتصاد الأميركي. أما واشنطن اليوم فلا تزال القوة الأقدر على التأثير باستقرار الصادرات النفطية من منطقة الخليج، وتستطيع بالتالي التأثير على اقتصاد أصدقائها وأعدائها على حد سواء، فلماذا ستتخلى عن هذه المكانة؟ وكيف تنظر بكين لهيمنة الولايات المتحدة على حركة الملاحة في منطقة الخليج؟
لن يكون هناك أي مبالغة إن قلنا إن الصين تنظر بكثير من القلق للنفوذ الذي تملكه الولايات المتحدة في هذه المنطقة ولهذا تعمل لبناء نفوذٍ مضاد. لا يمكن في هذا الحيز الضيّق أن نتطرق لكل الخطوات الصينية، ولكن يكفي أن نشير هنا إلى أن مساعي الصين لمدّ النفوذ، وشبكات المواصلات، عبر آسيا الوسطى، تهدف، من بين أهداف عديدة، لتأمين طريقٍ بديل للوصول إلى الخليج، عبر إيران. في شهر شباط الماضي دشنت بكين خط السكة الحديد الذي يربط طهران بمقاطعة شينغيانغ في الغرب الصيني. الخط الذي يبلغ طوله 9500 كيلومتر يؤمن رحلةً أقصر بمقدار الثلثين، بالمقارنة بالشحن البحري بين الموانئ الإيرانية والصينية. لحماية مصالحها في المنطقة، تحتاج الصين إلى شريك محلي قوي، وفي قائمة الشركاء المحتملين لا أحد ينافس إيران. وفي المقابل فإن إيران، خلال رحلتها للصعود وبناء دور إقليمي قوي، استفادت من الدعم الصيني ولا سيما في مجال نقل التقنيات العسكرية وكذلك المبادلات الاقتصادية التي لم تتأثر كثيراً بالعقوبات الغربية.
باختصار، مساعي خصوم الولايات المتحدة للصعود تدفعهم بشكلٍ طبيعي للتلاقي والتعاون وصولاً للتحالف. تدرك واشنطن ذلك جيداً. وتدرك أنها مجبرةٌ على التصدي لصعود هؤلاء الخصوم في مختلف المسارح وأن البراغماتية السابقة التي سمحت بالتعاون بين طهران وواشنطن في مناسبات عديدة باتت اليوم تملك حظوظاً أقل بكثير من السابق. لعنة الموقع تعني أن طهران ستواجه، في الحد الأدنى، استراتيجية احتواء أميركية جديدة.
السفير