رقصة «فالس» على جثةِ اليسار الفرنسي… عندما تصبح أيامهم معدودة

رقصة «فالس» على جثةِ اليسار الفرنسي… عندما تصبح أيامهم معدودة

تحليل وآراء

الأحد، ٤ ديسمبر ٢٠١٦

فراس عزيز ديب

في أيار 2015، سافرَ «الوزير الأول» الفرنسي «مانويل فالس» إلى برلين لحضورِ نهائي دوري أبطال أوروبا مع ولديه. يومها كان الحدث سيمر مرور الكرام، كونهُ أمراً متعلِّقاً بالحياةِ الشخصية لمسؤول، لكن وبعد ساعات ضجَّت «السوشيال ميديا» الفرنسية بما سموها فضيحةَ استخدام «فالس» للأموال العامة والطائرة الحكومية للسفر، على الرغمِ من عدم وجود فريق فرنسي طرفاً في النهائي. وقتها حاول «ميشيل بلاتيني» لملمة الفضيحة بالقول: إنه هو من دعا «فالس» رسمياً، أما «فالس» فدافع عن نفسه بالقول: إنه تلقى دعوة رسمية، لكنه اعتذر عن اصطحاب ولديه ووعد بإعادة تكاليف سفرهِما إلى خزينة الدولة. بقي السؤال المنطقي يومها، من الذي سعى لضربِ صورة «فالس» تحديداً أن الأمر انتشر على «السوشيال ميديا» قبل الصحافة، هذا إذا ما أخذنا بعينِ الاعتبار أن عدد العارفين بتنقلات «الوزير الأول» قلّةٌ قليلة؟! ربما لم يكن وقتها البعض ليصدق أن الرئيس الفرنسي «فرانسوا هولاند» هو صاحب المصلحة الأكبر بإطفاء نار «فالس» قبل أن تلتهم منه بطاقةَ الترشيح نحو الإليزيه، وبمعنى آخر، من ذلك الحين والمعركة بين الطرفين محتدمة، لكن ربما قليلون كانوا يتوقعون أن تنتهي لمصلحة «فالس»، فكيف ذلك؟

منذُ أن تم اختياره لمنصب وزير الداخلية في حكومة «إيرولت 2012»، كان الأمر أشبه بالمفاجأة، تحديداً أنه كشخص لا يملك الخبرة السياسية، حتى إنه حصل على معدل 5 بالمئة فقط من أصوات الناخبين في الانتخابات التمهيدية الاشتراكية 2011. رويداً رويداً بدأ «فالس» يلمع نجمهُ، فحاول بشكلٍ دائم تذكيرنا بضرورةِ استذكارِ المحرقة الصهيونية «بمناسبة ومن دون مناسبة»، لكن الأهم من ذلك أن «فالس» حاول بشخصيته السلطوية المتعجرفة أن يقدِّم نفسه أولاً خلفاً لـ«فابيوس» ليس في وزارة الخارجية، بل في الخط المتصهين في الحزب الاشتراكي. كان يعلم أن «فابيوس» لا يمكن أن يتابع بقيادة هذا الخط، ليس لتقدمه في العمر وما يمثله «فالس» من جيل الشباب فحسب لكن لقناعته التامة أن «فابيوس» ليس بخصمٍ يُخشى جانبه. رحل «فابيوس» بتوقيتٍ مدروس بسبب انتفاء الحاجةِ إليه، أما «فالس» فواصل الصعود ليختاره «هولاند» لمنصب «الوزير الأول» بدلاً من «إيرولت»، هذا التعديل الذي لم يُفهم مغزاه يومها، تحديداً أن لا شيء تبدل في الحكومتين إن كان لجهةِ الأداء أو الإنجازات؛ لكن فيما يبدو أن هناك ضغوطاً ما مورست على «هولاند» أرادت تعجيلَ تعويم «فالس»، وهو ما يمكننا تسميته عملياً «غلطة الشاطر بألف» لأنه كمن جاء بـ«الدب» إلى كرمه، هذا إذا اتفقنا أساساً أن «هولاند» ينطبق عليه وصف «الشاطر».
من مفارقات دستور 1958 الفرنسي أنه أعطى رئيس الجمهورية حق تسمية «الوزير الأول» لكنه لم يُشر صراحةً إلى حق الرئيس بإقالته. إن إسقاط «الوزير الأول» ما لم يستقل طواعيةً يكون في البرلمان عبر حجب الثقة، أو أن يضغط الرئيس «حزبياً» لدفعه على الاستقالة وبالتالي انتهاء حياته السياسية. «فالس» أدرك منذ لحظةِ وصوله لرئاسة الحكومة أن الفرصة باتت مهيأة، والانقلاب على «هولاند» مسألةَ وقت، وهو إن كان ظاهرياً بدا وكأنه يتحدى الشارع الفرنسي عندما استخدم مثلاً المادة 49 من الدستور والتي أتاحت له تمرير تعديلاتٍ على قانون العمل، وتحميل الشارع الفرنسي المسؤولية لـ«هولاند»، لكنه سار بخطٍّ متوازنٍ تارةً عبر التخلص من الخصوم اليساريين المحتملين بدفعهم للاستقالة ومن بينهم شخصياتٍ لها احترامها في اليسار الفرنسي كوزير الاقتصاد «ايمانويل ماكارون»، وتارةً عبر حمايةِ ظهره حزبياً لكي لايلقى حتفهُ السياسي. كان ينطلق في هذا الأمر من فرضيةٍ مقنعة بأن ترشح «هولاند» لفترة ثانية سيعني حكماً ضياع كرسي الرئاسة من الاشتراكيين. على هذا الأساس اجتمع الرجلان منتصف الأسبوع الفائت بما يمكننا تسميته « الفطور الأخير» في الإليزيه. لايبدو أن «فالس» الذي خرج مكفهراً كان قد نجح بإقناعه بالعدول عن ترشحه، لكن تبقى القطبة المخفية، وهي الفترة التي تلت الاجتماع حتى إعلان «هولاند» عزوفه عن الترشح، والتي ربما قد لا نعرف بالمعلومات ماذا جرى بها، لكننا حكماً نستطيع أن نستقرئها من المعطيات فماذا جرى؟
منذ إعلان «هولاند» عزوفه عن الترشح، والجميع يتحدث عن «تاريخية» هذا القرار وشجاعة «هولاند»، لأنه سيكون الرئيس الأول الذي يعزف عن الترشح طواعية. لكن ما يتجاهله الجميع أيضاً أن هذا الأمر هو نتيجة وليس سبباً، فهناك أمور تاريخية وصل إليها «هولاند» لم يصل إليها أحد قبله، فأرقام شعبيته التي وصلت للحضيض أيضاً تاريخية، وتحول فرنسا إلى دولة هامشية لا معنى لها في السياسة الدولية أيضاً تعمَّقَ في عهده، هذا بالإضافة لنفوذ «إمراء البترودولار». لكن الأهم والذي يتجاهله الجميع أنها المرة الأولى التي يُجبر فيها «وزير أول» رئيس الجمهورية على الابتعاد عن الحياة السياسية، لا العكس، أياً كان الفشل الذي يتحدثون عنه في كل الملفات، فماذا عن الملف السوري؟!
عندما نتحدث عن كلمةِ «يسار» فهذا قد يعطينا الصورة أن العلاقة فيها مع القيادة السورية يجب أن تكون بالحد الأدنى جيدة حتى قبل انطلاق ربيع الدم العربي، فالقيادة السورية التي تمثل نوعاً من «العلمانية السورية»، نسجت علاقات قوية مع الحكومات اليسارية تاريخياً. لكن ومن سخرية القدر أن هذا الأمر لاينطبق على فرنسا، فالعلاقة (الفرنسية ـ السورية) لم تعرف تردياً أكثر من الذي عرفته زمن حكم اليساريين. «فرانسوا ميتران» أحد أضلاع اليسار التاريخية كان أشبه بالعدو للقيادة السورية، حتى إن حكومته اليسارية قامت بطرد عدد من الطلبة السوريين الموفدين للدارسة في فرنسا. أما في عهد «هولاند» فإن الأمر أوضح من الحديث عنه، لكن لنعترف أيضاً أن هذا الأمر لا يتحمل مسؤوليته المال الخليجي فحسب والذي لا يوفر عادةً يسارياً أو يمينياً، ولا العامل «الصهيوني» الذي لا يبدو أن اليمين أو اليسار أحدهما سيشن حرباً لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، لكن المغزى الأساس هو التجهيز للمرحلة القادمة، فكيف سيتم ذلك؟
ليس صحيحاً أن «إسرائيل» هي المرتاح الوحيد في المنطقة، هي نجحت برؤية البلدان مدمرة هذا صحيح، لكنها حكماً لم تنجز مايروي ظمأها حتى الآن؛ على العكس بل بات الأمر بالنسبةِ لها الآن أشبه بالانقلاب لدرجةٍ أن انتصارات الجيش العربي السوري في حلب دفعت «ليبرمان» للدخول على الخط مباشرةً وربطه لأي تسوية مقبلة برحيل الأسد وخروج إيران وحزب اللـه من سورية على حدِّ تعبيره. لكن في الانتخابات الفرنسية تبدو الخسارة «الإسرائيلية» مضاعفة، لذلك هي حكماً تحاولُ استعادة ما يمكن استعادته؛ «إسرائيل» تخشى «اليمين المتطرف» ليس في فرنسا فحسب بل في كل أوروبا لأنها حكماً ترى فيهم «الهتلريين الجدد» القادمين للثأر مهما طال الزمن. أما اليمين فهو اليوم يقدم نفسه بصورةٍ جديدةٍ يقودها «فرانسوا فيون» لكنها بالكثيرِ من التفاصيل حكماً لا تروق لـ«إسرائيل»، فإن يتحدث الرجل عن دعم «حزب اللـه» ضد التكفيريين أو أن الأسد يحارب الإرهابيين، هذا من وجهة نظرهم تجاوزٌ لا يمكن القبول بهِ، وهو ما يلتقون به مع مشيخات «البترودولار» الذين طرح «فيون» إعادة تقييم العلاقة معهم كونهم يحتضنون «رموز التطرف». ربما هذا الأمر يفسر لنا القطبة المخفية في الفترة التي تلت لقاء (فالس – هولاند)، حتى إعلان «هولاند» عزوفه عن الترشح، أنه انقاذ اليسار ولكن حكماً ليس عبر «هولاند» لأن حظوظه معدومة، فماذا ينتظرنا؟!
ليس صحيحاً أن هناك ملفاً ينفصل عن ملف؛ إن وصول «فالس» إلى الإليزيه أمر يتم التخطيط له منذ زمن، لأنه الوحيد الذي سيرفع راية استمرار نزيف الدم في الشرق الأوسط، وهذا الأمر بالمطلق ما تسعى إليه «إسرائيل» بمعزلٍ عن فرص النجاح أم لا، تحديداً أن الخصوم ليسوا بالسهولة المرجوة إن كان على مستوى اليسار ذات نفسه أو على مستوى الأحزاب بشكلٍ عام. أما «فالس» فسيكون بخطاباته مماثلاً لذاك الحامل للجنسية السورية تحت اسم معارض، «فهد المصري»، الذي دعا لتشكيل تحالف للأمن الإقليمي بقيادة «إسرائيل»، عارضاً كل أنواع التعاون بين المعارضات السورية و«إسرائيل»، فهل سيكون «فالس» عرَّاباَ لأهداف هكذا تحالف على غرار «اتحاد ساركوزي المتوسطي» الذي ولد ميتاً… ربما نعم؛ تحديداً أن «فالس» لا نعلم إن كان فعلياً يجيد رقصة «الفالس» على جثة اشتراكيته، لكننا نعلم أن اليسار الفرنسي بات أشبه بجثةٍ هامدة وبمعنى أدق… أيامهم باتت معدودة.
الوطن