العراق المحتل: انتداب الأمم المتحدة والتسوية السياسية

العراق المحتل: انتداب الأمم المتحدة والتسوية السياسية

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣٠ نوفمبر ٢٠١٦

لا شك أن الوضع «الافتراسي» في العراق، كما يتصوره «معهد هدسون» الأميركي، هو القابل دوماً لإغراق الصيغ الأجنبية في رماله المتحركة. لقد عانى العراق كثيراً من جور المنظمات الدولية، حتّى أكثر من الدول الاستعمارية الكبرى التي ساهمت في خلقها وسلطتها على الشعوب باسم التوافق الدولي أو المجتمع العالمي أو مصطلحات أخرى بائسة وصماء. إن تجربة العراق مع «عصبة الأمم» في العام 1920 حين وافقت على انتداب بريطاني عليه ماثلة في الأذهان لحد الآن. وقد ثبتت هذه المنظمة عام 1932 الاستقلال الشكلي والكاذب للعراق من خلال تغطيتها على بقاء الاحتلال فعلياً لبريطانيا وقواعدها العسكرية وشركاتها النفطية الناهبة لثروات العراق الوطنية. وقد اعتبر مؤخراً رئيس الجمهورية في المحاصصة الاحتلالية هذا الاستقلال المزور عيداً رسمياً للدولة والمجتمع، من دون أن تعرف حكومة حيدر العبادي بذلك، وسط ذهول مضحك من قبل بيروقراطية الحكومة والناس معاً. وتتذكر القوى الوطنية جيداً دور هذه المنظمة في تسويغ الاحتلال وشروره وتعاون بطانته من العملاء الذين قال عنهم المفكر البريطاني جون غراي، صاحب القول الشهير «اتفق هؤلاء على عدم الاتفاق»، بأن أحدهم لا رأي له، رأسه كمقبض الباب يستطيع أن يديره كلُ من يشاء.
الأمم المتحدة والنشاط في الجحيم
في العام 1945، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تم تشكيل «الأمم المتحدة» على أنقاض «عصبة الأمم» المنقرضة. لكنها تقمصت الدور التسلطي نفسه في الميادين الحيوية كلها. ويمكن الاستشهاد بموظف مخضرم «من عظام الرقبة» في المؤسسة الأميركية، وهو السياسي والديبلوماسي هنري كابوت لودج، وكان سفيراً لبلاده من 1953 ـ 1960 أثناء رئاسة دوايت أيزنهاور. لقد قال كلمته الشهيرة: «إن الأمم المتحدة خلقت لمنعك من الذهاب إلى الجحيم. لكنها لم تُخلق لتذهب بك إلى الجنة». لكن الاحتلال الاميركي العام 2003 أثبت خطأ لودج، حيث تراجعت الأمم المتحدة عن رفضها احتلال العراق ومنحت له شرعية كاملة وتعاونت معه وما تزال، ولم تمنع العراق من الذهاب إلى الجحيم.
من اللافت والمفجع أن الأوساط السياسية المطلعة في العراق ودول الجوار، ومنها أجهزة الإعلام، أشارت مؤخراً إلى أن «الكوندومينيوم» الحاكم في البلاد بدأ يميل إلى زج «الأمم المتحدة» في صيغة انتدابية جديدة وغريبة، كونها تجعل «الأمم المتحدة» نفسها، وممثلها في العراق مؤسسة «يونامي»، هي الكيان المنتدب بذاته، وليس دولة عالمية أو إقليمية أخرى. و «يونامي» متورطة كلياً في الشأن الداخلي العراقي ولها دور خطير ومخرب في إعادة صياغة «نظام سياسي» جديد، يُطرح كذباً وتزييفاً بصفته بديلاً عن النظام الساسي الحالي. وتسير جهود قاطرة «يونامي» على سكتين، الأولى مؤسساتها والثانية مؤسسات وأحزاب «التشيع السياسي» وقيادته الحالية برئاسة عمار الحكيم، المسؤول الأول في تنظيم «المجلس الأعلى الاسلامي»، ورئيس «التحالف الوطني»، الممثل الوحيد «للتشيع السياسي» ومنظماته المختلفة.
وقد أكدت هذه الأخبار الصحف العراقية تحت الاحتلال. وذكرت بالتفاصيل آلية الوصول إلى هذه الصيغة الجديدة، ونشرت أدبياتها تحت مسمى «المبادرة السياسية» وتفرعاتها المختلفة، وعنوانها المركزي هو «التسوية السياسية» الوطنية والتاريخية. وقد نوهت صحيفة «الزمان» في 6 تشرين الثاني الماضي، إلى أن المبادرة الحالية تستند إلى مبادرة عمار الحكيم التي طرحها في منتصف العام 2015 باسم «السلم الأهلي وبناء الدولة»، وقد طواها الزمن في خضم الصراعات السياسية، لا سيما التنافس الضاري داخل «التشيع السياسي» نفسه.
لكن بداية العمليات العسكرية في مناطق عديدة من البلاد، وآخرها في الأنبار والموصل، ساعدت كثيراً على تنقية الأجواء داخل «التشيع السياسي» وانتخاب عمار الحكيم لرئاسة التحالف الوطني، وإصرار «يونامي» على طرح مبادرة من الأمم المتحدة للمصالحة الشاملة. كل ذلك فجر صاعق المبادرة الجديدة وجعل من «يونامي» وقيادة الحكيم ثنائياً لا ينفصم في طرح المبادرة وتنفيذها تحت شعار «الاجماع الوطني»، علماً أنها تفوض أميركا ودول «الكوندومينيوم» رعايتها وحمايتها من الأطراف العراقية أو دول الجوار التي ترفض السير بها أو تحاول عرقلتها، بل إن النص الذي نُشر في الصحافة العراقية يشير بشكل قاطع إلى أن الأمم المتحدة، بالتعاون مع حكومة العراق الجديدة والدول الضامنة للمبادرة، ستتصرف مع القوى الرافضة لها وفق القوانين الدولية.
آليات المبادرة ومحيطها السياسي
تنطلق المبادرة أولاً في مناخات غير مؤاتية وظروف سياسية ـ عسكرية معقدة جداً، وفي ذروة التصادم السياسي الداخلي وفي الإقليم، ناهيك عن العلاقة المغلقة والمتوترة حالياً بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة. إن معركة الموصل المركبة، التي تنخرط حالياً فيها جيوش جرارة، محلية وإقليمية ودولية، لا يمكن أن تكون البيئة الصالحة لانطلاق مثل هذه المبادرة، حتى لو كانت سليمة في حدها الأدنى، وهي ليست كذلك. واستثمار بعض الانتصارات الميدانية لا يمكنه أن يؤمن الغطاء الصالح لها، لأن أبواق الإعلام ذات النفس الطوائفي، لا تمنح الناس الأمل المعقول في النظر إلى المبادرة كمخرج للأزمة، بل كتتويج لنجاحات عسكرية ملتبسة. فهل الإصرار على طرح المبادرة من الطرفين، الحكيم ومؤسسة «يونامي»، يرتبط بصفقة معينة بين أميركا ودول الخليج، من أجل إقناعهم بأن المبادرة ستكون أداة لإضعاف ايران في العراق والمنطقة؟ وهل توجد علاقة بين المبادرة والمباحثات التي جرت بين حيدر العبادي ومسعود البرزاني في 29 أيلول 2016 في بغداد، حيث لم تُعلن تفاصيل الاجتماعات باستثناء شذرات من مسألة النفط؟ وهل تتسق هذه الآلية مع التشابكات السياسية والإعلامية في معارك الموصل الضارية؟ وما هو المدى الذي وصلت إليه الاتفاقات أو الخلافات بين أطراف «الكوندومينيوم»، تركيا وإيران والخليج، بحيث نتوقع إما قبولاً بالمبادرة وتسهيلاً لتطويرها، أو نكون في غرفة انتظار موتها السريري وما يترتــب بعد ذلك من مضاعفات فشلها، تحديداً على القوى المحركة لظهورها وعلاقتها مع «البيت الشيعي» وآلية استمرار حكمه مركزياً؟
القوى السياسية المنخرطة
لا تختلف المبادرة المطروحة عن العملية السياسية الاحتلالية، التي انضوت تحت لوائها القوى المتعاونة مع الاحتلال كافة. من هنا، فإن المبادرة تحمل أفكار وآراء هذه القوى برغم الاتفاقات أو الخلافات في ما بينها. ولا بد من التأكيد دائماً أن الاصرار على بقاء الدستور يصعّب محاولة إنجاز مصالحة وطنية أو تسوية سياسية جادة.
لم ترد إشارات واضحة إلى موقف القوى الكردية من المبادرة برغم الندوة التي عقدها عمار الحكيم في أربيل. الكارثة في المبادرة أيضاً أن القوى الأساسية «للتسنن السياسي» لم تعلق عليها. وما يزيد في سوء الحشف كيلة، أن المبادرة من أولها إلى آخرها تعتبر انضمام هذه القوى مرتبطاً بشروط ثلاثة: أولاً، ان الأمم المتحدة، «يونامي»، تتعهد بأن «تجلب» قوى أساسية من «التسنن السياسي» للتوقيع على وثيقة المبادرة، وأن تكون قوى المبادرة هي التي تحدد شروط هذه الموافقة وآلياتها. ثانياً، ان الدول الإقليمية «السنية» ستكون ضامنة لهذه القوى العراقية ولنجاح المبادرة أيضاً، علماً أن نص المبادرة يهدد باللجوء إلى الأمم المتحدة للتعامل بحسب قوانينها مع القوى المعرقلة لها. ثالثاً، ان اميركا والغرب بموافقتهما على المبادرة سيشكلان الضمان لإيران من «التسنن السياسي». بعد كل ذلك، تتشدق الوثيقة بكونها تحمل شعارات «لا غالب ولا مغلوب»، وكأن التهديدات التي تتضمنها ودية، وتعتبر نوعاً من صابون المصالحة الاجتماعية وطقوسها.
بقي أن ننوه أخيراً إلى أن الوثيقة تتنصل من «إنسانية» التسوية السياسية والمصالحة الوطنية بتقديسها الرموز الدينية وإعلان عصمتها، حيث لا يمكن المس بها إطلاقاً، ما يجعل من المبادرة عبارة عن لوائح لاهوتية قدرية، مهمتها تحقيق المصالح الاجتماعية والسياسية لمن كتبها أو من يؤيدها، بغض النظر عن هويته الدينية أو الاجتماعية والسياسية.