عصر الكذب.. بقلم: جميل مطر

عصر الكذب.. بقلم: جميل مطر

تحليل وآراء

الخميس، ٢٤ نوفمبر ٢٠١٦

لم تكن تعرف أن في بلدها من يملك هذه القدرة الهائلة على ابتكار كل هذا الكذب. قالت «أخجل من نفسي وأنا أتحدث معك عن العلاقات بين بلدينا. بالتأكيد لن تصدق بعد اليوم حججي التي أسوقها لتقتنع بأن أميركا سوف تبقى دولة عظيمة. أكاد أسمعك تسأل نفسك عن كيف تكون أميركا عظيمة وقد يتولى رئاستها رجل وامرأة لم يتوقفا عن الإدلاء بكذبة بعد أخرى خلال حملة انتخابية لعلها الأسوأ في تاريخ السياسة».
يبدو أن البعد عن الحقيقة أينما كانت ومتى حلّت أصبح إحدى سمات هذا العصر الجديد الذي نعيش فيه. سمعت ثم قرأت عن مؤتمر أوروبي انعقد قبل أسبوعين لمناقشة مشكلات التعليم في دول الاتحاد الأوروبي. شارك في المؤتمر معلمون ليطرحوا وجهات نظرهم في المناهج والمقررات والطرق الحديثة في التدريس. فاجأ المعلمون منظمي المؤتمر والمشاركين حين لفتوا نظرهم إلى أن التلاميذ الذين هم لب وجوهر القضية التعليمية، موضوع المؤتمر وهدفه، ليسوا التلاميذ الذين استقرت صورتهم وطباعهم واهتماماتهم والقيم التي يتحلون بها في أذهان كبار المتخصصين في قضايا التربية والتعليم. قال المعلمون إنهم يُعلِّمون جيلاً لا يريد أن يهتم بالوقائع أو الحقائق في حد ذاتها. ففي مادة التاريخ مثلاً يأتي المعلم إلى الفصل وقد استعد بتفاصيل فتوحات نابليون بونابرت ومزوداً بتواريخها ومسارح القتال وأساليب القـــيادة ومعنويات الجنود، ليفاجئه التلاميذ بتعليقات عن أخلاقيات نابليون وســـلوكياته وذوقه في اختيار زوجاته ومحظياته. يهتمون بإصدار الأحكام عنه وعن عهده في الحكم قبل أن يهتموا بوقائع الحكم ومحطاته الأساسية.
ذلــك هو حال درس الجغرافيا. يتعب المعلم في شرح دور المناخ في كثافة أو ندرة الســكان ودور موارد المياه ووعـــورة التضاريس في اختيار مواقع المدن، ليتبقى في نهاية الدرس فيضاً من التعلــــيقات يرتبط أغلبها بما تردد عن قسوة حكـــام هذا البلد أو ذاك، وعن ميل السكان إلى العنف وربما ما اشتـــهر عنهم من ثقل الظل وصعوبة المعاشرة. لا اهتمام بجـــغرافية المكان وتفاصيل الطبيعة.
الظاهرة التي اكتشفها المعلمون في أوروبا، وأعتقد أنها موجودة في مدارسنا ومدارس أميركا، هي أن اهتمامات تلاميذ هذه الأيام بعيدة كل البعد عن جوهر وحقيقة الوقائع ومنصبّة على ما يحيط بها من قصص وشائعات وأقاويل وإصدار الأحكام في شأنها. أصبح التلميذ مهتماً بالحكم على الأشياء من دون أن يتعرف أولاً على مصادرها وتفاصيلها أو على حقيقتها. لاحظ المعلمون أيضا أن إجابات التلاميذ على أسئلة الامتحانات صارت قيمية، إجابات تحاكم وتحكم وتفضح وتشوه ولا تجيب بما يثبت أن التلميذ يعرف حقيقة ما يجيب عليه. المعلومات ليست مهمة، المهم هو إصدار احكام عليها.
استشرت صديقاً له أولاد في سن الدراسة الابتدائية والثانوية. أذهلتني شهادته. قال إنه كلما أتيحت له فرصة إطلاع أولاده على معلومة جديدة توصل إليها، وهي فرصة لا تتكرر كثيراً، شعر بعدم ترحيب أو تشجيع من جانبهم. يسارعون في نهاية كل محاولة لاستدراجهم ليتعرفوا على واقع علمي أو فني جديد بالادعاء أو الزعم بأنهم سبق واطلعوا عليه ثم يطلقون حكماً أو آخر عليه. أحدهم سمع أباه يتحدث مع أمه عن صديق مشترك للعائلة استدعته قوى الأمن لزيارة قصيرة، فإذا به يتدخل بالقول، «أنا عارف، وأعرف سبب استدعائه.. أصله عميل وخاين». صدق من قال إنها الفجوة بين الأجيال، تخيّلت بينما أُنصت إلى الرجل ما كان يمكن أن يحدث لو كنت أنا هذا الولد وتدخلت في حديث بين أمي وأبي لأقول أمامهما ما قاله هذا الولد عن صديق العائلة أو أن أعلق أو أحكم على شيء لا علم لي به.
جلست أمام شاشة التلفزيون أتنقل بين القنوات. كان موعد نشرات الأخبار. سمعت في واحدة منها مذيعاً يتهم دولة عربية بخيانة الصف العربي وفي نهاية الاتهام ينقل خبراً بالإيجاز الممكن عن واقعة اجتماع جرى بين سمو الأمير وضيف من عندنا. لا علاقة على الاطلاق بين الاتهام والخبر. انتقلت إلى قناة أخرى فسمعت الاتهام نفسه ولكن مع خبر آخر عن الدولة ذاتها. على قناة أخرى كانت المذيعة الشهيرة تذيع «شيئا ما» لم أدرك كنهه تماماً، لم أعرف إن كان نقل واقعة أم قراءة بيان تمجيد واحتفاء. تأكّدت من حقيقة جديدة في مهنة الإعلام وهي أننا «إعلامياً» نعيش بالفعل عصر «ما بعد المعـــلومة» أو نعيش في عصر «ما بــــعد الواقعة». لا نهتم بالواقعة بقدر ما نهتم بتشويهها واختــلاق قصص تقلل من قيمتها أو بالعـــكس نبالغ في تمجيــدها وتـــزويقها. لا نهتم بما قال أو فــعل مواطن بقدر ما نهـــتم بمصيره الذي صــار ملك أيدينا، نقتله حــياً أم نرفعه إلى مصاف الرسل.
نعيش في زمن الكذب. أولادنا، إن صح ما قاله المعلمون في أوروبا وصدق عليه المعلمون في مصر، يكذبون حين يعلقون على معلومة لم يسمعوا عنها. إعلاميونا، طبعا أتحدث عن بعضهم، يكذبون حين يستجيبون لتكليفات أو يتطوعون بإضافات تجعل نقل المعلومة وسيلة لتشويه سمعة شخص أو دولة أو شعب أو وسيلة لإرضاء حاكم أو مسؤول صغير ولكسب منفعة وصك تأمين وضيافة رحلة. تنكّر هذا البعض لمهنته التي اشترطت عليه لممارستها صدق الكلمة، فكذب واستمر الكذب حتى صار بعضهم، كما يحدث الآن في أميركا، لا يخفي احتقاره للبعض الآخر علناً. النتيجة كما نراها في مجتمعات أخرى هي سقوط الإعلام في التراب متمرغاً ضحية كذب فئة تنكرت لأخلاقيات المهنة. حقيقة الأمر هي أن البعض منا وربما صار أغلبية في قومه، وبينه حكام ومحكومون، لم يعد يستـــخدم العقل لتقييم معلومة جديدة. أصبحوا وللأسف يلجأون فور الإبلاغ بواقعة جديدة إلى انطباعاتهم الحسية أو مصالحهم الشخصية أو كــــلها معاً. يحكمون بها على الواقعة فيشوهون سير شخوصها، يمزقــــونهم تمزيقاً ويسحقون الواقعة سحقاً فتضيع تفاصيلها أو يزهون بها ويتكبرون، يشيدون بأبطـــالها ويرفعونهم إلى مصاف النبلاء وإن انعدم الخــجل فمصاف الأنبـــياء. في الحالتين يحدث منهم ما يحدث من أطفال هذا العصر، هم لم يقــــرأوا أو يطلعوا أو يــشاهدوا الواقعة ولكنهم جاهزون فورا للتعليق والحكم عليها.
عن الكذب في السياسة حدّث ولا حرج. كنا ونحن صغار نعتقد أن السياسي القوي لا يكذب. يكذب فقط السياسي الضعيف. كبرنا ونضجنا لنعرف أن كلهم يكذبون لأنهم يقتنعون بأنهم يصنعون واقعاً جديداً وفي النتيجة يخلقون «حقيقة» أو أجزاء منها ولو بالكذب. في ظنهم أن لا شيء، لا شيء على الإطلاق، حتى الصدق يستحق أن يقف عائقاً يمنع وصول السياسي إلى هدفه المعلن وهو حماية الدولة ممن يعتقد أنهم خصومها. نموذجنا المرموق السيد دونالد ترامب الذي كـــذب كذباً عظيماً في هذه الحملة الانتخابية الفريدة في آثـــــارها وتداعياتها الحادثة والمرتقبة. يقولون في أميركا إن أكاذيبه تجاوزت في العدد والنوع أكـــــاذيب الرئيس ريتشارد نيكسون، أحد أشهر من كذّب من رؤساء أميركا. يقولون أيضاً إن تــــرامب تفوّق في عــــدد أكاذيبه على الرئيس جورج بوش الابــــن الذي ارتكب 935 كذبة منذ توليه المنصـــب وحتى اليـــوم الذي سبق شن حربه المتوحشة على العراق.
للكذب السياسي والإعلامي منافع لأصحابه لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. أهم منافع هذا النوع من الكذب حفّز الناس على الابتعاد عن الواقع بالغوص في بحار الأحلام والأوهام والخرافات والانغماس في سير المؤامرات والأسرار وحكايات الرعب والخوف. من المنافع أيضاً أنه يخفي المستوى التعليمي والمهني الهابط لعدد متزايد من السياسيين والإعلاميين الجدد في أميركا وخارجها. ألم يجرب أهالينا معنا في الصغر بعض هذه الأساليب بدعوى حمايتنا، جربوا ولكن من دون قهر وقمع خوفاً على ذكائنا وإنسانيتنا. كذلك لم يتعوّدوا تشويه المعلومة أو تغيير معالمها قبل وصولها إلينا. الغريب، أو لعلها من مفارقات الزمن الجديد، أننا نعيش في عصر المعلومات. ولكن هناك من يحاول بكل ما أوتي من سلطة أو مال حرماننا من استهلاك المعلومات في حالتها الطبيعة، أي خالية من الأحكام المسبقة والتشويه أو التجميل المتعمد. إنه عصر الكذب بامتياز.