ما بعد الانتخابات الأميركية: مستقبل غير مشرق للعالم العربي

ما بعد الانتخابات الأميركية: مستقبل غير مشرق للعالم العربي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٢ نوفمبر ٢٠١٦

إذا كانت انتخابات الرئيس الأميركي الجديد تعبر عن أزمة المجتمع الأميركي، فإن حفاوة بعض العواصم العربية به تعبير أشد عن أزمة العالم العربي.
(1)
أصبح مصطلح «الصدمة» الأكثر شيوعا في تعليق بعض الدوائر الغربية على النتيجة التي أسفرت عن فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، وقد استخدمت الكلمة وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين، أما السفير الفرنسي لدى الولايات المتحدة جيرار ارود فقد ذهب إلى أبعد، واعتبر أن النتيجة من إرهاصات الانهيار في العالم (قالها في تغريدة على صفحته ثم حذفها لاحقا). أما أصداء الصدمة في الولايات المتحدة ذاتها فلا تزال تعبر عنها تظاهرات الرفض والاحتجاج التي اجتاحت العديد من المدن الأميركية.
الفرحة الكبرى كانت في إسرائيل التي عبر عنها قادة اليمين الذين أضفوا على فوز ترامب سمة دينية، حين اعتبروه «مخلصا» أرسلته العناية الإلهية لكي يكمل المعجزة الإلهية التي حدثت العام 1967 حين هزم الجيش الإسرائيلي الجيوش العربية؛ إذ تذهب الأدبيات الدينية اليهودية إلى أن المخلص سيأتي يوما ما لتحقيق الخلاص اليهودي المتمثل في تدشين الهيكل وإقامة دولة الشريعة. وبسبب شيوع تلك اللوثة، فإن بعض الأصوات ارتفعت محذرة من الاندفاع وراء الرئيس الجديد. فنــشرت صحيفة «هآرتس» مقالة للكاتب ارييه شافيت حذر فيها من تــطرف ترامب وعنصريته. ومما قاله إنه على مدى التاريخ، فإن القادة الغوغائيين على شاكلة ترامب الذين يتمكنون من إثارة مشاعر الجماهير كانوا أكثر أعداء اليهود قساوة.
التحذير صدر أيضا عن بن كاسبيت أحد كبار المعلقين الذي قال إن ثروته كملياردير ـ ترامب ـ جعلته في غنى عن دعم اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، الأمر الذى يسمح له باتخاذ مواقف تثير المنظمات اليهودية وإسرائيل.
أيا كان الأمر، فـــإن الحفاوة الإســـرائيلية بانتخاب ترامب لها ما يبررها، ذلــك أن تصريحاته ومواقـــف مــساعديه تذهب إلى أبعــد مدى ممكن في خدمـــة المخططات الإسرائيلية، وهو ما عبرت عــه تصريحـــات الرجل وهو مرشح وتصريحاته بعدما صار رئيسا.
(2)
ما يحتاج إلى تحرير وتفسير هو هرولة بعض القادة العرب نحوه ومسارعتهم إلى الحفاوة به، ومما تابعناه خلال الآونة الأخيرة ان المهرولين العرب ثلاث فئات: فئة رحبت بموقفه إزاء إيران وحديثه عن إلغاء الاتفاق النووي معها. فئة أخرى رحبت بعدائه للإسلام السياسي واعتزام إدارته اعطاء الأولوية للحرب ضد الإرهاب، وعدم اكتراثه بقضايا الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان. الفئة الثالثة لها تحالفاتها التاريخية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة بصرف النظر عن موقف وهوية الرئيس الذي يسكن البيت الأبيض.
سجلت الملاحظة كاتبة مجلة «نيويوركر» روبن رايث التي اعتبرت الترحيب بانتخاب ترامب في الشرق الأوسط «مفاجئا وغير متوقع»، إلا أنها أضافت أن ذلك الترحيب لا يعكس بالضرورة مواقف الشعوب. استشهدت في ذلك بنتائج استطلاع للرأي أجري في تسع دول عربية قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات الأميركية حول مدى شعبية المرشحين هيلاري كلينتون وترامب. (الدول التسع هي: مصر والعراق والمغرب وفلسطين «الضفة وغزة»، إضافة إلى المملكة العربية السعودية والكويت وتونس والأردن والجزائر). وبيَّن الاستطلاع أن 60 في المئة في هذه الدول فضلوا «الديموقراطية» هيلاري كلينتون، فيما حصل «الجمهوري» ترامب على تأييد من قبل 11 في المئة فقط. الملاحظة الأخرى المهمة أن أقل نسبة لتأييد ترامب جاءت من مصر وفلسطين، وإذا كان مفهوما أن يكون انتخاب ترامب مخيبا لآمال الفلسطينيين بسبب فجاجة تصريحاته المنحازة لإسرائيل، فإن الشق المتعلق بمصر لا يخلو من مفارقة، إذ في حين أن الرئيس السيسي كان أول حاكم عربي بادر إلى تهنئة ترامب بالفوز، فإن الشعب المصري صنف ضمن أقل شعوب المنطقة ترحيبا به. وهي ملاحظة كاشفة عن فجوة في الرؤية جعلت القلق الفلسطيني على مصير القضية بعد انتخاب الرجل معادلا لقلق المصريين على مصير الديموقراطية والحريات العامة في هذه الحالة.
(3)
لأن الفرق كبير بين الحديث في السياسة وممارستها، فإن الوقت لا يزال مبكرا لتقييم سياسة الرئيس المنتخب القادم من خارج السياسة، وليس له سجل يمكن التعويل عليه في مناقشة خياراته أو التنبؤ بسياساته. كما أن أغلب المحللين يدعون إلى الحذر في الحكم عليه، بحجة أن ترامب المرشح ليس بالضرورة ترامب الرئيس. لذلك فإن ما صدر عنه أو وعد به أثناء الحملة الانتخابية ليس بالضرورة برنامجه بعد انتخابه. مع ذلك فثمة سمات له اتضحت في الآونة الأخيرة.
فمحرر «ذي اتلانتيك» الأميركية آدم ساروار قال إنه هو وفريقه «من طينة أناس يتقنون الكذب» بينما يسعهم إعلان أن «السماء خضراء من دون أن يرف لهم جفن». وهو مؤمن بسياسة القوة التي لا تأبه بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان. ثم إنه معاد للإسلام والمسلمين. كما أنه «عنصري مثل هتلر تجاه الشعوب الأخرى. إلا أن الترامبية تختلف عن الهتلرية في أن الأولى عنصرية عفوية وشعبوية، في حين أن الهتلرية كانت عنصرية مؤسسية ونخبوية، وفيما عدا ذلك فإن بين الظاهرتين تشابها كبيرا خاصة في النظرة تجاه الشعوب والأعراف والدول الأخرى، وتجاه إدارة السياسة الدولية والعلاقات الخارجية» (رغيد الصلح ــ «الحياة» اللندية 11/10). نبهت مجلة «فوربس» إلى ترجيح التحول في السياسية الأميركية في ظل الوضع المستجد، الذي سيكون له تأثيره الكبير على الولايات المتحدة وعلى الشرق الأوسط. إذ في دراسة نشرتها أخيرا تحدثت عن تراجع فكرة العولمة التي قادتها الولايات المتحدة في العقدين الاخيرين، والعودة إلى الاهتمام بالدولة القومية مرة أخرى. وكان العلماء الأميركيون وفى المقدمة منهم استاذ العلوم السياسية فرانسيس فوكوياما صاحب مقولة «نهاية التاريخ» قد تنبأوا بتراجع الدول القومية، وادعوا أنها لن تصمد أمام هجمة العولمة ورياحها. إلا أن التجربة أثبتت أن تلك التوقعات لم تكن دقيقة، وأن الفكرة اتسمت بالمبالغة الكبيرة، ذلك أن الدول القومية الكبرى أصبحت تراكم قوتها. وهو ما ظهر جليا في تعاظم قوتها الدفاعية، بحيث انضمت إلى أكثر الدول انفاقا على الدافع العام 2015.
لقد روج ترامب طوال حملته الانتخابية لفكرة استعادة الولايات المتحدة قوتها وعظمتها التي تأثرت بفكرة العولمة واتفاقيات التجارة الحرة. ولذلك دعا إلى إلغاء تلك الاتفاقيات لإعادة تشغيل المصانع التي كانت قد انتقلت إلى الخارج للاستفادة من العمالة الرخيصة. وهو ما دغدغ مشاعر كثيرين برغم استحالة تنفيذ الفكرة (تصنيع بعض أجزاء سيارة «فورد» في المكسيك يجعل سعرها يتراوح بين 16 و20 ألف دولار في حين أن تصنيعها بالكامل في ميتشغان أو أوهايو يرفع السعر إلى ما بين 28 و32 ألف دولار). الشاهد أن «الترامبية» تغذي وتسعى لاستعادة الدولة القومية القوية، وهو ما أقلق أوروبا بسبب الشكوك التي اثارتها تصريحات الرئيس المنتخب التي انتقد فيها الأعباء المالية التي تتحملها واشنطن في ميزانية الحلف «تعادل ثلثي الميزانية». إلا أن ما يهمنا أكثر هو التأثير المتوقع على مجريات الأمور في الشرق الأوسط.
(4)
كل الدلائل تشير إلى أن إسرائيل هي الفائز الأكبر من انتخاب ترامب، إذ إلى جانب وعده بنقل عاصمة إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، فإن الفريق الذي اختاره يمثل ضوءا أخضر لإسرائيل التي تنطلق لتنفيذ مخططاتها وتحقق طموحاتها في جميع الاتجاهات. من ناحية أخرى، ما عادت سرا خصومته لإيران وانحيازه إلى سياسة القوة مع غضه الطرف عن قضايا الحريات وحقوق الإنسان، إلى جانب عدائه للإسلام السياسي. ذلك كله ينذر بتحولات مهمة في المنطقة نستطيع أن نرصد أبرز معالمها في ما يلي:
ـ إذكاء الحرب ضد إيران من خلال الاصطفاف إلى جانب ما سمى بـ «المحور السني» من شأنه تعميق الصراع بين الشيعة والسنة لسنوات قادمة إلى جانب إسدال الستار على القضية الفلسطينية وطي صفحتها.
ـ انصراف الإدارة الأميركية عن قضايا الحريات وحقوق الإنسان في المنطقة يشكل دعما كبيرا للأنظمة القمعية في العالم العربي، الأمر الذي سيكون له أثره المباشر على تراجع وضع الديموقراطية والتمادي في انتهاكات حقوق الإنسان.
ـ في هذه الأجواء، فإن المناخ يصبح مؤاتيا سواء لانتعاش جماعات التطرف والإرهاب أو لتفتيت الدول العربية أكثر مما هي مفتتة الآن بفعل الصراعات المذهبية والعرقية. بالتالي ففي حين تنتقل الولايات المتحدة من العولمة إلى الدولة القومية، فإن فكرة الدولة ذاتها سوف ترجع في العالم العربي لمصلحة مشروعات التقسيم والجماعات الجهادية العابرة للحدود.
ـ لا غرابة والأمر كذلك أن يعد فوز ترامب الذي احتفت به إسرائيل بمثابة انتصار لقوى الثورة المضادة في العالم العربي وهي التي ما برحت تلوح بشعار الحرب ضد الإرهاب، وجعلت منه قناعا وستارا أخفى حربها الشرسة ضد «الربيع العربي» بمختلف تجلياته.
لست أدعو إلى التفاؤل أو التشاؤم، لكني أتمنى أن نضع الأمر في إطاره الصحيح، وأن نفكر جيدا في كيفية التعامل معه. ومع ذلك، إن قوة المجتمع الأميركي بمؤسساته الراسخة ومنظومة قيمه السائدة تؤمنه بصورة نسبية وتضمن له التوازن وتحول دون تصدعه برغم انقسامه. أما مشكلتنا في العالم العربي فهي أكبر وأكثر استعصاء، لأن مجتمعاتنا من الهشاشة والوهن بما يجعلها قابلة للتشرذم والانفراط عند أول هزة تتعرض لها ــ يا خفي الألطاف نجّنا مما نخاف.