عن هزيمة «العاصفة».. وخسارة «الجنوب العربي».. بقلم: عبد الله زغيب

عن هزيمة «العاصفة».. وخسارة «الجنوب العربي».. بقلم: عبد الله زغيب

تحليل وآراء

الجمعة، ١٨ نوفمبر ٢٠١٦

يمر اليمن في هذه الأيام في واحدة من أكثر مراحله تعقيدا، إذ يُفترض بالجميع السير في الخريطة الأميركية للسلام، القائمة على خريطة أخرى أعدّها المبعوث الدولي إسماعيل ولد الشيخ أحمد، والتي لم تُمرر، نظرا لإحساس الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي بأن هذه «التخريجة» جاءت لإنهاء مسيرته السياسيّة. علما أن المبادرة من شأنها أيضا إبطال مفاعيل المبادرة الخليجية، لا سيّما العناصر الشائكة والغامضة فيها، التي ساهمت في تأجيج الصراع وكان لها دور أساسي في صناعة «الانقلاب» الحوثي في أيلول من عام 2014. كل هذا يُفترض أن يترافق في حال نجاحه بشكل أولي مع عمليّة إعادة هيكلة في النخبة السياسيّة، بما يتناسب مع أوزان المنخرطين في المعركة العسكريّة. وهو ما يعني بالضرورة إعادة تعويم للثنائي اليمني الشمالي المكون من «المؤتمر الشعبي» (ومن يدور في فلكه) وجماعة «أنصار الله»، على أن يؤخد بالحسبان أيضا، من أثبتت أجواء «عاصفة الحزم» امتلاكه حيثيّة «تعطيلية» بالحد الأدنى في حال عدم انخراطه.
تقليم أظافر الرئيس
لا يمكن بطبيعة الحال المرور سريعاً على الواقع الجنوبي اليمني، خاصة أن «التحالف الشمالي» يبدو أكثر استقرارا وقدرة على تمرير الاستحقاقات، إذ يفترض باستبدال القيادة الممثلة للجنوبيين على الطاولة «الوحدويّة»، عبر التقليم التدريجي لأظافر الرئيس هادي وحلفائه المنبثقين عن حرب «العاصفة»، أن يُنتج حالة أكثر قربا من الشارع وتمثيلا لطموحاته. وذلك في سبيل إبطال مفاعيل الخطابة المذهبية وكذلك «الوطنية الانفصاليّة»، التي شهدت ازدهارا قياسيا خلال الفترة الحالية والماضية القريبة، بفعل الانسلاخ عن صنعاء بقوة السلاح. الأمر الذي أعاد ترسيخ عناوين «عقائديّة» كامنة، ارتكزت إليها العناصر السياسية المكونة لـ «الحراك الجنوبي» في عمليّة تمرير «أجندتها» وتهيئة الأرضيّة لإنجاح عمليّة «فك الارتباط» التي سعى إليها الحراك سابقا، بما يمثله من امتداد طبيعي لـ «الحزب الاشتراكي الجنوبي»، وحرب آخر رؤساء الدولة الجنوبيّة علي سالم البيض للانفصال عن صنعاء في صيف عام 1994.
تشي ردود الفعل الأوليّة القادمة من المناطق الجنوبيّة اليمنيّة بارتياح غير مسبوق لما يمكن أن تذهب إليه الأمور في حال نجاح الخريطة الأميركية، خاصة أنها ستضمن إزاحة الطبقة السياسيّة الجنوبية التي أنتجها إعلان الوحدة في الثلاثين من تشرين الثاني عام 1990، والمرتكزة على رؤية الزعيم «التاريخي» علي عبدالله صالح، بما فيها من عناصر تم إسقاطها في الشقين السياسي والاجتماعي، تحديدا من خلال تعيين محافظين وسياسيين جنوبيين موالين للدولة المركزية، كان لهم دور في كبح جماح الاتجاهات الصاعدة المطالبة بالانفصال أو بالفدرالية أو حتى اللامركزيّة. وقد كان الرئيس اليمني الحالي من أبرز هذه الشخصيات، إذ شكّل منصور هادي البديل الأنسب لعلي سالم البيض في أجندة الزعيم صالح بعد حرب الانفصال، وتحول بعدها الى العضلة الرئيسية لصنعاء جنوبا، حيث أشرف شخصيا على إنتاج ما يشبه قانون «اجتثاث البعث» في عراق ما بعد الغزو الأميركي، من خلال تسريح آلاف الجنود الجنوبيين وتحويلهم الى كتلة عاطلة من العمل، وناشطة في عمليات الاعتراض السياسي ثم العسكري لاحقا.
ملء الفراغ في عَدَن
يؤسس الحراك الجنوبي في هذه الفترة لإطلاق مرحلة جديدة من العمل السياسي، تقوم على فراغ متوقع في المنطقة الرمادية التي سيدخلها الجنوب بعد السير بخطة السلام، سواء في الوضع الحالي، أو في السيناريو الثاني القائم على إنجاح «الخريطة» باندفاع سعودي مباشر مدعوم أميركياً. علما أن المسار الطبيعي للأمور سيُنتج عمليّة توزيع مهام ومناصب في المناطق الجنوبيّة، لن تعبّر إطلاقا عن طموحات الكيان السياسي والعسكري الأكثر شعبية هناك، نظرا للفارق الهائل في الأجندات، والانقسام العمودي غير المسبوق الذي عززته النتائج المباشرة لثورة الشباب بداية عام 2011، فضلا عن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني والمبادرة الخليجيّة، وصولا إلى واقع ما بعد حرب «التحالف العربي» على اليمن. وهي سلسلة أحداث أثبتت في أكثر من مناسبة مدى هشاشة العلاقة بين صنعاء والأطراف، وكذلك مدى ضعف المكوّن الجنوبي في الجسد الموحد، في ظل توزيع الأدوار والحصص القائم منذ ستة وعشرين عاما.
في مقابل النزعة الانفصالية الواضحة جنوبا، لا تُظهر صنعاء «اكتراثا» ملائما لخطورة الوضع على الصورة النهائية للدولة اليمنية الموحدة، إذ تستمر على المنوال ذاته في التعاطي مع الجنوبيين، ضمن الرؤية الدائمة للرئيس السابق علي عبدالله صالح، القائمة على نظرة «أيديولوجيّة» قوميّة، مفادها أن الوحدة «حتميّة تاريخية»، تحميها أدوات الحل الأمنى و «التحييد» السياسي، بما أن الحالة الشعبية العامة هناك أثبتت رفضها للوحدة في أكثر من منعطف. وعليه، فإن الخطابة الجنوبيّة التي تصل إلى حد وصف العلاقة مع صنعاء بـ «الاحتلال»، تلاقيها خطابة فوقيّة أخرى قادمة من الشمال، تقوم على أساس احتواء الحالات السياسيّة وتفتيتها عبر إدراجها في اللوائح الوظيفيّة الأساسيّة، وضرب الاتجاهات الانفصاليّة الحادة عبر العضلة العسكريّة، مع وجود فارق هائل في القدرات، لم تنجح المساعي الخليجيّة في تعويضه واستثماره عكسيّا.
بالتوازي مع رؤية «المؤتمر الشعبي» لقضية الوحدة ومطالب الجنوبيين، جاءت الانعطافة في مواقف «الحوثيين» لتعمّق الواقع الخلافي أكثر، ولتدفع بالأمور نحو حائط مسدود، عجز الجميع عن استثمار ثغراته طوال فترة الحرب. إذ قامت المقاربة «الحوثيّة» للملف الجنوبي سابقا، تحديدا في مرحلة ما قبل «انقلاب» أيلول، على التقاء طبيعي وتحالف انسيابي ما بين أعداء النظام اليمني وقتها، ضمن سياقات «الربيع» اليمني. هكذا التقت تركة «الحروب الستة» لدى «الحوثيين» مع تركة الارتباط ثم حرب الانفصال لدى «الحراك الجنوبي»، فانبثقت عن الأمر «رومانسيّة ثوريّة» استمرت بضعة شهور فقط، حتى جرى تمييعها في مرحلة ما بعد «المبادرة الخليجيّة»، لكن مع محافظة الطرفين على ودّ نسبي ظهر في عدد من خطابات زعيم «أنصار الله» السيّد عبد الملك الحوثي، التي شهدت «تخفيفا» مدروسا للشق الجنوبي في الخطابة. ثم تحول الأمر من «تحالف» الى بحث في «المظلوميّة» كما سماها الحوثي، شكلت وقتها «قربانا» على مذبح التقرب من «المؤتمر الشعبي»، استشعارا بضرورة تعزيز عناصر القوّة «الوطنيّة»، واستباقا للهجمة الخارجيّة.
مستقبل اليمن الجنوبي
لم يعد من المتاح اليوم تخطي الحالة الجنوبيّة وتمرير مشروع بثقل «وطني» وتاريخي من دون أخذ الواقع العَدَني بالحسبان. فالمرحلة الحاليّة، سواء في الإقليم أو حتى دوليا، باتت أكثر انفتاحا على تفتيت الدول «القوميّة»، فكيف الحال بتلك القائمة أصلا على عناوين إشكاليّة. كما أن تركة الحرب مع السعوديّة وما أنتجته من «هزيمة» لبنود إعلان «عاصفة الحزم»، قد تعني محاولة عكسيّة من الرياض وحلفائها تقوم على أساس دعم «الحراك الجنوبي» والاتجاهات الانفصاليّة، بدل الدعم المركز حاليا على «الإخوان المسلمين» الممثلين بحزب «الإصلاح»، أو العناصر السلفيّة «الجهاديّة». وهو استثمار قد يتحول الى مشروع مجزٍ، نظرا لعناصر القوة التي تمتلكها المنطقة الجنوبيّة، من أرض زراعيّة خصبة وثروات نفطيّة وغازيّة وقوى بشريّة مؤهلة لإدارة هذه الثروة، وما يعنيه الأمر من خسائر ثقيلة على الاقتصاد اليمني، تحديدا في مرحلة ما بعد الحرب بما تحمل من استحقاقات وتكاليف قياسيّة.