عالم ترامب: اليوم الأوّل..بقلم: عامر محسن

عالم ترامب: اليوم الأوّل..بقلم: عامر محسن

تحليل وآراء

الخميس، ١٠ نوفمبر ٢٠١٦

1ــ العِلم
من الأمور التي خلّفها ميشال فوكو، والتي يمكن أن تكون بالغة الإفادة للباحثين في العلوم السياسية الأميركية، فكرة أنّ الإحصاءات والبيانات و»الداتا» التي ننظر اليها على أنّها اختزال وتوصيفٌ وفيّ للعالم من حولنا (عدد السكان، مثلاً، وتفضيلاتهم وفئات الهوية التي يُقسمون اليها) ليست «معطاة سلفا» وموجودة في مكان ما، ثمّ نقوم نحن بـ»اكتشافها» عبر الأرقام والإحصاء، بل اننا «نخلق» هذه الداتا حين ننتجها، وننشر معها صورة معيّنة عن «الواقع» ــــ هي ليست «خطأً» بالضرورة، ولكنها ليست الإمكانية الوحيدة لسرد الواقع، وليست محايدة، ويتمّ انتاج هذه المعطيات ضمن عملية سياسيّة في العمق.

هذا تمييز أساسي، وهو مثالٌ واضح على العلاقة بين «المعرفة» و»القوّة». فلنأخذ وحدة إحصائية يعرفها الجميع: الناتج القومي الإجمالي (GDP). العديد منّا يرى العالم والدّول من خلال هذا الرّقم، ويعتبره «صفةً طبيعية»، بديهية، لا يمكن تخيّل الاقتصاد من دونها. ولكنّ مفهوم الناتج القومي لم يكن موجوداً في علم الإقتصاد حتّى عهد الكساد الكبير، حين طلبت الحكومة الأميركية من الاقتصادي كوزنتس أن «يصنع» هذا المؤشّر، لأنّها كانت تنوي ادخال تأثيراتٍ معيّنة في الاقتصاد، واكتشفت أنّها في حاجة الى هذا النّوع من المعرفة لتنفيذ سياساتها. بمعنى آخر، لم يكن وجود المؤشّر طبيعيّاً ولا ضرورياً، وفي عالمٍ سياسيٍّ مختلف، كنّا سنحلّل الإقتصاد ونقسّمه ونتمثّله عبر فئات مختلفة (لدى تيموثي ميتشل ايضاً مناقشة مثيرة عن انتشار وحدة الـGDP لإدارة العالم في مرحلة ما بعد الإستعمار، وتقسيمه الى وحدات «مستقلّة» ــــ هي الدّول ــــ متشابهة ومعزولة عن بعضها البعض، يمكن إدارة اقتصاداتها «من فوق»).
خبراء العلوم السياسية الأميركية لا يقرأون فوكو، وقد غاب عن العديد منهم هذا التفريق بين «الواقع» وبين التكنولوجيا السياسية (كالإحصاءات والاستطلاعات) التي تنتجه. التراكم الهائل لـ»بنية تحتية» إحصائية في أميركا خلال العقود الماضية (بنيت بكلفة هائلة، ولا نحلم بمثلها في بلادنا) جعلت العلوم السياسيّة تتطوّر بشكلٍ كمّيّ يعتمد حصراً على المعادلات والأرقام. قد يكتب عالم سياسةٍ كتاباً كاملاً عن فلوريدا، مثلاً، من دون أن يزورها مرّة واحدة أو يقوم بأي «بحث ميداني». ففي وسعك، من أي مكتب وحاسوب، أن تختار اي عيّنة جغرافية (ولو كانت عنواناً بريدياً صغيراً يسكن فيه مئات الأشخاص) وأن تعرف، في جزءٍ من الثانية، كمّاً هائلاً من المعلومات عنهم: عددهم، أعراقهم، دخلهم، تعليمهم، الخ. والمقاربات الكمّيّة، «العلمية»، التي تعتمد على الأرقام وتعطيك نتائج قطعيّة و»عملية» (أي مفيدة للدولة) ستتفوق دوماً على مقاربات تفسيريّة، نظرية، نسبويّة في الحقل الأكاديمي.
مجال الاستطلاعات كان، حتّى البارحة، فخر العلوم السياسية والمصدر الرئيسي لادّعاءاتها «العلموية»، وتميّزها عن باقي العلوم الاجتماعية. للحقّ، فإنّ علم الإحصاء قد وصل فعلاً (بفضل التكنولوجيا السياسية) الى درجة من الدقّة تشبه السّحر. يشرح لك اساتذة الإحصاء أنّك اليوم، لو كنت تملك موارد غير محدودة ومستعدّ لوضعها في استطلاع، فأنت تقدر (نظرياً) على انتاج توقّعات لا ترقى الى الشكّ أو الخطأ بأيّ هامش. وكانت احصائية بارعة مثل لورا ستوكر تخبر تلاميذها قبل أسبوع أو أكثر من الانتخابات الرئاسية أنّ فلاناً سيفوز، وتكون دوماً على حقّ. حتّى البارحة، كان التشكيك في الاستطلاعات المحترفة، أو السخرية من توقّعات نايت سيلفر، تبدو وكأنها سخرية من العلم، أو انكاراً لنظرية النشوء والارتقاء.
هذا كلّه انتهى البارحة مع فوز دونالد ترامب، اذ تبيّن أنّ الاستطلاعات لم تكن مخطئةً فحسب، ضمن هامش أو خارجه، بل كانت ببساطة بلا نفع، وقد قضينا أشهراً مع العلماء والإعلام نتابع بتشوّق تطوّر «الرأي العام» في واقعٍ لا علاقة له بالعالم الحقيقي. لماذا حصل ذلك: هل هي مشكلة منهجية لها علاقة بتغيّر السياق الاجتماعي (منذ بداية الألفية وتخلّي العديد من ابناء الجيل الجديد عن الهاتف الثابت، بدأت عملية اختيار العيّنة الإحصائية تواجه مشاكل)؟ هل هي لأنّ المجتمع عصيّ على التعليب، وكلّما خرجت تكنولوجيا تسمح بالتحكّم به و»قراءته»، يتطوّر المجتمع بشكلٍ يبطلها؟ أو هي لأنّ هدف الاستطلاعات، النّاس، قد فهموا اللعبة ولم يعودوا يلعبونها، كمثال تقديم معلوماتٍ خاطئة في الاستبيانات (وهو ما أفعله، مثلاً، كلّما اضطررت لملء استطلاع، واعتبر أنّ جمع معلوماتٍ عنك هو عملية عدائية وتطفلية)؟ مهما يكن، فإنّ ادّعاءً قديماً عن العلمويّة، ومنهجاً كاملاً للنظر الى المجتمع وتفسيره ــــ بنيت حوله صناعة كاملة ــــ قد تمّ نسفه البارحة، وكان أوّل ضحايا دونالد ترامب.

2ــ اميركا

في الحقيقة، لم يحز دونالد ترامب على «نصرٍ كبير» كما يردّد البعض، بل هو قد يخسر التصويت الشعبي بفارقٍ بسيط عن هيلاري (100 ــــ 200 ألف صوت). ولكن ترامب حقّق «نصراً استراتيجياً»، بمعنى أنّ الأصوات تدفّقت لصالحه تحديداً من قبل الطبقة العاملة البيضاء ــــ التي كانت تصوّت تقليدياً للديمقراطيين ــــ في الولايات الحاسمة، حيث تسمح كمية صغيرة من الأصوات بترجيح عددٍ كبيرٍ من النقاط الانتخابية.

لا يمكن تفسير
هذا الفوز عبر
العنصرية واليمينية والشوفينية البيضاء
لهذا السّبب، فإنّ ترامب قد يحقّق فارقاً معتبراً عن هيلاري في أصوات ممثلي الولايات (ربما يلامس الـ290 صوتاً) حين ينتهي العدّ. حصل من قبل في تاريخ الولايات المتحدة أن خسر مرشّحٌ في التصويت الشعبي وفاز بالرئاسة، ولكن الفارق في الناتج الانتخابي في هذه الحالات يكون بسيطاً وضئيلاً. غير أنّ ترامب، بفضل اكتساحه لبنسلفانيا واوهايو وويسكونسن (وعلى الأرجح ميتشيغان)، أي كلّ مكانٍ فيه أناسٌ بيض، فهو لن يفوز فحسب، بل سينتصر بجدارة.
المشكلة هي أنّه لا يمكن تفسير هذا الفوز، كما يفعل الكثير من أنصار هيلاري، عبر العنصرية واليمينية والشوفينية البيضاء. الأرقام تقول إن اللاتين والسود، الذين يُفترض أن ترامب يهدّدهم ويحتقرهم، أعطوا ترامب أكثر مما أعطوا ميت رومني (المرشّح الجمهوري السابق، وهو كان من قادة كذبة «الخيمة الكبيرة»، وتحويل الحزب الجمهوري الى خيارٍ يجذب الأقليات والمهاجرين). هنا ايضاً خيارٌ ايديولوجيّ في التفسير، النخبويون سيلومون الناس مجدداً، ويعتبرون أن اللاتين أصحاب الجنسية الأميركية كانوا يصوّتون، بأنانية، ضد أقرانهم من المهاجرين الجدد، ومثلهم السّود. ولكنّ التفسير المقابل، الذي ينقد المؤسسة والحكّام لا أفقر الفئات في المجتمع الأميركي بدعوى «الأنانية»، يقول إنّ الأقليات لم تصوّت لهيلاري ببساطة لأنّها لا تراها (كما يقدّمها الإعلام الليبرالي) تقدمية وحليفة لهم. وأنهم جربوا حكم الديمقراطيين واوباما، وقبله كلينتون، ولم يحصلوا على شيء.
توماس فرانك باحثٌ ومعلّقٌ أميركي، اشتهر منذ أكثر من عقدٍ عبر كتابٍ اسمه «ما هو الخطل في كنساس؟» يشرح صعود اليمين في صفوف الطبقة العاملة الأميركية البيضاء، وتحوّل ولايات كانت ديمقراطية الى «ولايات حمراء». يقول فرانك، تعليقاً على نتيجة الانتخابات، إنّه كان من الممكن تسويق هيلاري بأكثر من طريقة، ولكن من المجنون أن يتمّ تقديم هذه المرشحة (الغارقة في مستنقع السياسة والفساد، والمعروفة بصلاتها بالمصارف، وحولها فضائح بالعشرات، ولا تعد الطبقات العاملة بشيء) على أنّ انتخابها يهدف الى صدّ «مرشّحٍ يميني»! يصرّ فرانك على أنّ ترامب لا يملك أيّ ذكاء سياسي، وحملته الانتخابية كانت فاشلة بالكامل، وفعل كلّ ما يمكن فعله خطأ (من شقّ حزبه الى معاداة «فوكس نيوز»)، ومع ذلك انتصر. ليس بسبب ما يقول، بل لأنّ النّاس تصوّت ضدّ هيلاري وضد ما تمثّله، وهم لا يصدّقونها، ويكرهون الثقافة التي حولها، وهم مستعدّون لفعل أيّ شيء للخلاص من تحكّم هذه المؤسسة وهؤلاء الناس بهم، ولو على صهوة مرشّحٍ من طراز ترامب.

3ــ الامبراطورية

يشرح سمير أمين أنّ من الفوارق الاساسية بين عهد الحداثة وما قبله، بين نظام الامبراطوريات «الكلاسيكية» وبين الامبريالية ونظام الدول الأمم اليوم، هو أنّ النظام الامبراطوري كان يقسم الشعوب التي تقع تحت حكمه بشكلٍ «أفقي». هناك طبقة حكّامٍ صغيرة نسبياً (وهذه النخبة والبطانة تكون متعددة الأعراق والأديان)، والباقي كلّه «رعية». الحكّام يستبدّون بالنّاس كلّهم ويستخرجون منهم الضرائب والجزية، ولكنهم لا يميزون بين عرقٍ وآخر، فلا يكون التركي في الأناضول مفضّلاً على العربي مثلاً، ولا وجود لشعب «مركز» متقدّم على المستعمرات والأطراف. أمّا في العهد الامبريالي، يحاجج أمين، فقد أضحت القسمة «عامودية»، بمعنى أنّ التوسّع الرأسمالي، منذ بداية الاستعمار الأوروبي، يقوم على دولةٍ قومية، لها شعبٌ ومواطنون، تختلف حقوقهم وامتيازاتهم وموقعهم ــــ نوعياً ــــ عن باقي الشعوب التي تقع تحت حكمها وتأثيرها.
هذا التمييز بين مواطني «المركز» وباقي الشعوب أساسيّ وضروريّ لفهم عالمنا، وكلّ من يحاول أن يغطّي هذا الواقع ويخفيه، حتّى تحت شعارات تقدمية ظاهراً من نوع أننا «مواطنو كوكبٍ واحد»، أو أن «الطبقة العاملة» هي هي في كلّ مكان، يهدف الى تسطيح العالم وانعدام العدالة فيه. الطّريف أنّ الكثير من النّخب التي تتجاهل هذا الواقع تقضي قسطاً كبيراً من حياتها في البحث عن الجواز الأجنبي، وهم يعرفون جيّداً الفرق بين أن تكون مواطناً في «العالم الأوّل» أو في «دول الجنوب». وهذا السّعي نحو الموقع المحظي طبيعيّ وانسانيّ، ولكن يجب أن نكون واعين له (لا اذكر إن كان سلمان رشدي أو نايبول هو الذي قال إنّ يوم حصوله على الجواز البريطاني كان أسعد يومٍ في حياته).
لهذا السّبب، لا يمكن لترامب (أو بيرني ساندرز) أن يكون جذرياً أو ثورياً، مهما كان فجّاً وصادماً وغريباً عن النظام. الهدف الأساسي لترامب وناخبيه هو الحفاظ على هذه «الميزة الامبريالية» التي يحصل عليها المواطنون الأميركيون، وزيادتها وتنميتها، وليس إعادة النظر بها (يقول سمير أمين إن الامبريالية لن تنهار حتى تقوم شعوب المركز، لا الأطراف، بالتخلي عنها نحو الشيوعية، وهم لن يفعلوا ذلك حبّاً بالعدل أو بباقي الشعوب، بل بحثاً عن نمطٍ أرقى من الوجود الانساني، وهرباً من حياة الوظيفة الرأسمالية والعبودية والقلق). كلّ ما في الأمر هو أنّ قسماً كبيراً من الأميركيين يريد الارتداد عن العولمة، ويعتبر انها تقود الى نزف المواطن الأميركي لامتيازاته، ويريد استردادها عبر نمطٍ «قوميّ» وأكثر انعزالاً. هذه العودة الى الحدود القوميّة، وشعارات العظمة لأميركا، لا يمكن أن تنتج سياسات تقدمية على مستوى العالم، بل قد يجعل أميركا أكثر شراسة وفاشية تجاه الغير. السيناريو الأفضل، بالنسبة الينا، هو أن تقع السياسة الخارجية في عهد ترامب في شللٍ وضعف، وأن ينشغل الرئيس بمشاكله الداخلية والمعارضة الشرسة التي تنتظره.
بسبب هذا التقسيم للعالم، ايضاً، هناك شيءٌ مهينٌ للكرامة الشخصية في أن يقوم عربيّ بالتماهي مع العملية الانتخابية كأنه مواطنٌ أميركي، وأن يختار معسكراً ويشارك النّخب الأميركية فرحها وخيبتها، وقلقها على الليبرالية والديمقراطية في اميركا. كما أسلفنا، من الطبيعي أن يسعى الانسان في دول الجنوب الى التماهي مع المواطنة (والثقافة) الأميركية الغالبة و»المميزة» في هذا العالم. ولكن فعل ذلك بعد أن تهاجر وتصبح جزءاً من النظام هو أمرٌ، وأن تفعله وانت مواطنٌ عربيّ، يمكن أن تخطف حياتك في أيّ لحظةٍ غارةٌ أميركية، أمرٌ آخر تماماً. أمّا العرب الذين يقوم منهجهم على التعاون مع الامبريالية، والاعتماد عليها، وانتظار الخلاص منها، فقد حزنوا لخسارة هيلاري أيّما حزن. كما قال الكاتب الفلسطيني محمّد المجدلاوي، من الصّعب أن نصدّق أن حلفاء آل سعود حزنوا على هيلاري لأن ترامب ذكوري، أو أنّهم تأسّفوا عليها لأسباب «ديمقراطية» (وهي، وأسلافها، قد حافظوا على كلّ الأنظمة الاستبدادية العربية، من دون استثناء). هم تعساء ومحبطون، ببساطة، لأنّهم كانوا يريدون من هيلاري أن تقصفنا وقد خاب أملهم. فماذا تقول لهم؟