أميركا تتجدّد.. بقلم: منير الخطيب

أميركا تتجدّد.. بقلم: منير الخطيب

تحليل وآراء

الخميس، ١٠ نوفمبر ٢٠١٦

أميركا تفاجئ الجميع، وتثبت مرة أخرى أنها قادرة على تجديد نفسها سياسياً. ما خرجت به صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة، هو أكثر من الرئيس الخامس والأربعين. دونالد ترامب ليس رجل الأعمال المغامر، المتهوّر، قليل الخبرة، المنقلب على المؤسسة الحاكمة، ولا هو الشعبوي كثير الكلام، قليل الأفكار. على العكس تماماً. ترامب يمثل اليوم أميركا جديدة تؤمّن دوام الاستمرار لمؤسسات هرمة متضخّمة ثقيلة الحركة. الفوز الساحق، غير المتوقع الذي حققه لا يمكن أن يأتي بالصدفة. قد يكون الرئيس الأقل شعبية، لكن صناديق الاقتراع أعطته أكثر بكثير مما ناله جورج بوش، ويقرب ما ناله باراك أوباما الذي حقق فوزاً بنسب تاريخية.
المعركة الرئاسية لم تكن بين محافظين وليبراليين أو بين برامج يسار ويمين، كانت معركة مزاج عام مصاب بالملل ويحتقر السياسيين. كانت بين مرشحَيْن تقليدي وجديد، غير متكافئي الفرص والإمكانات. ترامب الذي لم يخض أي تجربة سياسية أو عسكرية في حياته، الدخيل على واشنطن، يواجه المرأة الأكثر سطوة في تاريخ السياسة الأميركية. ما توافر لهيلاري كلينتون كان غير مسبوق على صعيد الدعم الانتخابي والمالي، يكفي أن يكون في حملتها رئيسان هما الأكثر شهرة وتأثيراً في الولايات المتحدة باراك أوباما وزوجها بيل كلينتون. ويكفي أن يكون حزبها موحّداً خلفها، بخلاف «الحزب الجمهوري» الذي تعامل مع «الجديد» كخارج على القانون.
عدم التكافؤ كان يؤشر إلى أن هيلاري التي شكلت حياة بيل كلنتون السياسية، في طريقها إلى فوز تاريخي تكون عبره الرئيسة الأولى في الولايات المتحدة، علماً أن ميولها السياسية محسوبة على ذكور الصقور، لا في باب خيارات الناشطات النسويات اللاتي لم تغفرن لها لا مبالاتها حيال فضيحة زوجها الجنسية، ولا أوضاع المرأة العاملة في مؤسساتها.
ترامب الطارئ سياسياً كان متحرّراً من ضغوط التاريخ، ومن ضغوط اللوبيات والمؤسسة الحاكمة. اختار طريقاً سهلاً ممتنعاً إلى البيت الأبيض. خاطب هواجس الأميركيين داخل حدود بلاده، أي بين المحيطين الأطلسي والهادئ شرقاً وغرباً، وبين كندا والمكسيك شمالاً وجنوباً. تحدّث عن إعادة النظر إلى الاتفاقيات التجارية التي بنظره أغلقت مصانع الأميركيين، قال بزيادة الإنفاق على البنى التحتية. تحدّث كما يتحدث الأميركي التقليدي البروتستانتي الأبيض، صلاة أكثر، قيم عائلية أرسخ، دولة أقوى قادرة على مواجهة روسيا العائدة إلى الساحة الدولية بصخب بالغ، والصين التي تتمدّد في كل مكان بجحافلها الاقتصادية. أما خطابه عن الأقليات وإغلاق الحدود والتمييز ضد أتباع الأديان المختلفة المهاجرة إلى الولايات المتحدة، فلم يفرمل تقدمه في المقاطعات التي تضم نسباً مرتفعة من الملونين.
هذه أميركا الجديدة المنكفئة المتغطرسة التي تسمّي الأشياء بأسمائها بعيداً عن بلاغة خطاب أوباما، تعيد حملاتها الصليبية إلى الداخل. تريد أن تبدّل جلد الأفعى لا قتلها. وهذا ما سيفعله ترامب يُعيد إحياء أميركا من الداخل وجعلها أكثر إبهاراً وألقاً مثل أي تاجر يروّج لبضاعته، الأساس الشكل والغلاف. المحتوى يصبح تفصيلاً ولو صنع في الصين. ترامب الرئيس رجل تسويات غير ترامب المرشح الفالت. خطاب الفوز وإشادته بهيلاري كان البداية. أميركا تفعل المستحيل لتتجدّد ولو عبر صدمة سياسية تضطرها إلى تسليم البيت الأبيض لدونالد ترامب. هذا سرّ تفوقها.