مسيرة صعود اليمين الإسرائيلي وما تعنيه للعرب ولسورية

مسيرة صعود اليمين الإسرائيلي وما تعنيه للعرب ولسورية

تحليل وآراء

السبت، ٥ نوفمبر ٢٠١٦

في نيسان الماضي، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً يمنح رئيس الوزراء الإسرائيلي مهلةً حتى 13 كانون الأول المقبل لكي يُسند لغيره الحقائب الوزارية التي يديرها بنفسه. برغم أن احتكار نتنياهو حقائب وزارية عدة، لا يخالف القوانين الإسرائيلية، إلا أنه من وجهة نظر المحكمة العليا الإسرائيلية لا يقود إلى وضع ديموقراطي. يمسك نتنياهو اليوم بثلاث حقائب وزارية، الاتصالات والخارجية والتعاون الإقليمي، وذلك بعدما تخلى عن حقيبتي الصحة والاقتصاد. تمسك نتنياهو بهذه الوزارات، خصوصاً وزارة الاتصالات، هو جزء من استراتيجية نتنياهو للتشبث بالحكم وتمتين قبضة اليمين الإسرائيلي. يقترب نتنياهو من إكمال عامه الثامن على التوالي في منصبه، فكيف حصل هذا؟

اليسار واليمين في إسرائيل
اتسمت العقود الأولى من نشأة الكيان الإسرائيلي بهيمنة واضحة للتيار «اليساري»، سواء على صعيد من يصل إلى مقاعد الكنيست والحكومة أو من يتصدر قيادات الجيش الإسرائيلي أو على صعيد النخبة الفكرية في المجتمع الإسرائيلي. وبرغم أن اليمين، بقيادة مناحيم بيغن، تمكن في نهاية السبعينيات من الوصول إلى الحكم، وحكم لسنوات طويلة، عبر إسحاق شامير وبنيامين نتنياهو لاحقاً، إلا أن اليمين لم يسيطر سوى على قمة هرم الحكم، فيما بقي اليسار حاضراً بقوة، سواء في صفوف الجيش الإسرائيلي أو في المراكز الفكرية في المجتمع أو وسائل الإعلام. ولهذا السبب بقيت قبضة اليمين ضعيفة واضطر قادة اليمين للتحالف مع أحزاب يسارية، على رأسها «حزب العمال»، للتمكن من تشكيل الحكومة، ولم يكن من الممكن تشكيل حكومة يمينية بالكامل، ما أبقى اليمين مقيداً للغاية. إلا أن نتنياهو نجح بتغيير المعادلة.
عندما وصل نتنياهو إلى الحكم للمرة الأولى كانت الصورة التي رسمت له هي أنه رجل موتور ومتعصب وسرعان ما سيقود نفسه إلى الهاوية، وهذا ما حصل فعلاً عندما خسر الانتخابات لمصلحة إيهود باراك. ولكن تصرفات نتنياهو المتهورة حجبت الأنظار عن حقيقة مشروعه وفهمه طبيعة وأسباب قوة اليسار الإسرائيلي. اعتبر نتنياهو، خلال مقابلة مع صحيفة «هآرتس»، في تشرين الثاني 1996، أن مشكلة إسرائيل هي وجود سيطرة واضحة لفئة ذات توجهات عقائدية معينة، وأن هذه الفئة تحتكر الحياة السياسية، وهي من يقوم عملياً بصياغة القوانين وتقديم تفسير لها. في المقابلة نفسها أعلن نتنياهو أن السبيل لتصحيح هذه الصورة وخلق نوع من التوازن يتم عبر خلق منافسة عقائدية حقيقية. لم يذكر نتنياهو اليسار صراحةً، لكن كان واضحاً أنه يعتبر أن هيمنة النخبة اليسارية على وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، إضافةً إلى الجيش، تمنع اليمين من الانفراد بالحكم، وممارسة «التمكين السياسي». أدرك نتنياهو أن اليمين، وإن كان يستطيع الوصول إلى الحكم، إلا أنه لا يستطيع البقاء ولا يستطيع إحداث تغييرات عميقة. برغم أن نتنياهو بدا يومها أنه يمتلك خطةً واضحةً لتمكين اليمين، إلا أن رعونته وعدم امتلاكه الخبرة السياسية الكافية أخرجاه من رئاسة الحكومة قبل أن يتمكن من تنفيذ خطته هذه.

صعود نتنياهو
من النادر أن تطالع تحليلاً لمسار صعود نتنياهو واليمين في إسرائيل من دون أن تجد إشارةً للدور الذي لعبته صحيفة «إسرائيل هايوم» (إسرائيل اليوم) في هذا الصعود. في العام 2007، أطلق صديق نتنياهو، شيلدون أديلسون، وهو رجل أعمال يهودي أميركي، هذه الصحيفة اليمينية التي توزع بالمجان والتي يحمل غلافها، كل صباح منذ إنشائها، بعض أفكار نتنياهو التي تهاجم اليسار. تتصدر هذه الصحيفة قائمة المطبوعات الإسرائيلية، إذ يوزع منها يومياً ما يصل إلى نصف مليون نسخة، وهذا رقم هائل إذا ما قورن بسكان الكيان. وبالطبع ما إن وصل نتنياهو إلى الحكم مجدداً، في آذار 2009، حتى بدأ حملةً واسعةً لتعميق نفوذ اليمين، وذلك من خلال احتكار وزارات الاتصالات والثقافة والتعليم والعدل والتي حرص نتنياهو إلى إسنادها إلى وزراء من حزبه أو وزراء من حلفائه اليمينيين.
نجح نتنياهو في البقاء في منصبه بعد انتخابات الكنيست في عامي 2013 و2015. وبينما اضطر للتحالف مع اليسار في العامين 2009 و2013، تمكن في العام 2015 من تشكيل حكومة يمينية صرفة، وهذه سابقة تاريخية في الكيان الإسرائيلي. تغير كثيراً نتنياهو المتهور، الذي عرفناه للمرة الأولى في نهاية التسعينيات، وبرع باستخدام البراغماتية والدهاء لإطاحة منافسيه، في اليمين واليسار. ولهذا يحتل اليوم المرتبة الثانية في قائمة رؤساء الوزراء الإسرائيليين الأطول حكماً، لا يسبقه سوى بن غوريون. مسيرة نتنياهو لم تكن مفروشةً بالورود، فهو يخرج من أزمة سياسية ليواجه أخرى. وبغض النظر عن تفاصيل هذه الأزمات، وأي منها سيتكفل بإخراجه من رئاسة الوزراء، من المرجح أن يبقى اليمين الإسرائيلي صامداً وأن يخلف نتنياهو قيادي يميني آخر مثل نافتالي بينيت (من حزب البيت اليهودي) أو حتى أفيغدور ليبرمان. ولكن ماذا يعني لنا أن يصعد اليمين في إسرائيل؟

نتائج صعود اليمين بالنسبة للعرب
يتمحور الخلاف الرئيسي اليوم بين اليمين واليسار في إسرائيل حول مسألتين: الأولى هي حل الدولتين والانسحاب من الضفة الغربية، والثانية هي هوية الدولة الإسرائيلية نفسها وهل هي ديموقراطية أولاً أم يهودية أولاً. والمسألتان مترابطتان للغاية، فاليسار الذي لا يرفض حل الدولتين يعتبر أن إسرائيل هي دولة ديموقراطية أولاً، فيما يعتبر اليمين الذي يرفض حل الدولتين أن إسرائيل دولة يهودية أولاً. إصرار اليمين على يهودية الدولة يستفيد من، ويغذي في الوقت نفسه، المخاوف لدى الإسرائيليين اليهود من العرب، ويقود بالتالي نحو رفض تقديم أي تنازلات في المفاوضات مع الفلسطينيين. فقد نجح نتنياهو في الاستفادة من بعض التطورات في إقناع الإسرائيليين بأن الانسحاب من الضفة الغربية لم ينعكس إلا سلباً على الأمن الإسرائيلي.
من الصحيح تماماً أن اليسار الإسرائيلي بعيدٌ تماماً عن الاعتراف بكامل الحقوق الفلسطينية المشروعة، ولكن اليمين بالمقابل يمضي اليوم إلى حد المطالبة بضم أراضي الضفة الغربية، وهذا ما يطالب به، تلميحاً، بعض حلفاء نتنياهو مثل وزيرة العدل، المتطرفة للغاية، أيليت شاكيد (حزب «البيت اليهودي»). ويبدو أن هذه الآراء باتت تلقى قبولاً كثيراً لدى الرأي العام الإسرائيلي. حيث تُظهر استطلاعات الرأي أن ما يصل إلى 80 في المئة من الإسرائيليين اليهود يعتقدون بحق اليهود بالحصول على معاملة تفضيلية على حساب العرب. تظهر الاستطلاعات نفسها، التي أجراها «مركز بيو» للأبحاث، ونشر نتائجها في آذار هذا العام، أن 48 في المئة من الإسرائيليين اليهود يوافقون على طرد العرب من إسرائيل.
أما الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر أحد أهم روافد الحياة السياسية في إسرائيل، التي لا يخفى فيها دور الجنرالات المتقاعدين، فقد كان له نصيبه من صعود اليمين. تاريخياً، كان التيار اليساري هو صاحب النفوذ الأكبر في الجيش، ولا سيما لأن طلاب المدارس الدينية كانوا معفيين من الخدمة العسكرية الإلزامية. ولكن الحكومة الإسرائيلية بدأت في العام 2014 بدعوة الآلاف من طلاب المدارس الدينية للخدمة العسكرية الإلزامية. وبالنتيجة ارتفعت نسبة المتدينين في الجيش الإسرائيلي من حوالي 2.5 في المئة في العام 1990 إلى أكثر من 30 في المئة مؤخراً، فيما تصل نسبة المتدينين بين صفوف الضباط الصغار في بعض الوحدات «المقاتلة» إلى حوالي 50 في المئة.
يشكل صعود المتدينين في الجيش الإسرائيلي مصدر قلق حقيقيا، لا سيما وسط دعوات المتطرفين في إسرائيل للجنود ورجال الشرطة لإطلاق النار على الفلسطينيين الذين يشتبه بهم أو الذين يحاولون تنفيذ عمليات طعن بالسكاكين. وهذا ما حصل فعلاً منذ بضعة أشهر، ووثقته كاميرات الفيديو. لكن ضغوط اليمين حالت دون محاسبة الجندي الإسرائيلي المتورط، ما دفع وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون للاستقالة. وبعيداً عن الحوادث الفردية، يشكل صعود اليمين في صفوف الجيش عائقاً حقيقياً أمام أي انسحاب من الضفة الغربية. ففي العام 2005 رفض ما يصل إلى مئة جندي وضابط إسرائيلي المشاركة في عمليات تفكيك المستوطنات في قطاع غزة، وذلك في أعقاب الدعوات التي وجهها الحاخامات لهم بعد إطاعة أوامر قياداتهم. وإذا ما حصل أن تشكلت حكومة إسرائيلية توافق على الانسحاب من الضفة الغربية، فإن نسبة الجنود المتمردين ستكون أكبر بكثير. ذلك سيناريو مستقبلي بعيد الاحتمال على أي حال.
يمكن القول إن اليمين الإسرائيلي يركز اليوم على قضاياه الداخلية، لا سيما تلك المتعلقة بالعلاقة مع الفلسطينيين، في الداخل، أو في الضفة الغربية وقطاع غزة. احتمال حصول مواجهة عسكرية أخرى في قطاع غزة هو احتمال قائم دائماً، ويتزايد ذلك الاحتمال يوماً بعد يوم، لا سيما بعدما نجحت إسرائيل بتحييد السودان، إحدى أهم مراحل نقل الأسلحة إلى الفصائل الفلسطينية في غزة، وكذلك بعدما تعطل نقل السلاح عبر مضيق باب المندب. قد يكون الشيء الإيجابي الوحيد ـ حالياً ـ في صعود اليمين الإسرائيلي هو أن هذا اليمين يركز على الشؤون الداخلية وهذا ما يفسر عدم قيامه، حتى الآن، بأي تحركات كبيرة ضد سوريا، مثلاً، برغم كل التسريبات التي تقول إن إسرائيل تدعم قيام منطقة عازلة، من نوع ما، في الجنوب السوري، على حدود الجولان السوري المحتل. ولكن هل ستتغير هذه السياسة الإسرائيلية في المستقبل القريب، مع وصول إدارة أميركية جديدة، ومع تنامي حالة المواجهة الأميركية الروسية في سوريا، ومع إنشاء تركيا لمنطقتها العازلة في سوريا؟ الغالب أن إسرائيل تفضل الجلوس مرتاحةً وهي تراقب الآخرين ينجزون ما تتمناه، ولكن لنستمر بالمراقبة على أي حال.