انكفاء الشعبوية في اللحظات الأخيرة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

انكفاء الشعبوية في اللحظات الأخيرة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الخميس، ٢٧ أكتوبر ٢٠١٦

مساء 19/10/2016 استنفد كل من مرشحي الرئاسة الأميركيين فرص الاستعانة بالجمهور التي يتيحها عرف الانتخابات الأميركية لثلاث مرات يعمل من خلالها المرشحان على رفع رصيدهما الانتخابي، وفي أول استطلاع أجرته (سي إن إن) ما بعد المناظرة الثالثة والأخيرة في لاس فيغاس بنيفادا جاءت النتائج لتشير إلى تفوق هيلاري كلينتون بواقع 52% على خصمها الجمهوري دونالد ترامب الذي حصد 39% من أصوات المستطلعة آراؤهم للوهلة الأولى بدا أن غرف حكومات الظل الأميركية أو ما يسمى مؤسسات الدولة العميقة التي لا تتغير بتغير مسؤوليها الكبار أو من يقومون بقيادة الدفة في العلن، وكأنها تريد إحداث انعطافة كبرى في مسار الليبرالية الأميركية الحاكمة منذ قرنين من الزمن (وإن كانت قد حاولت تزويق تلك الليبرالية فيما سبق) بعدما أصاب ذلك المسار هزات عنيفة كانت ذروتها في الأزمة المالية البادئة في نيويورك أيلول 2008 التي لم تكتمل تداعياتها بعد، ناهيك عن تراكم أزمات أضحى كفيلاً بإحداث تغييرات نوعية منها عجزها (أي عجز الليبرالية) في حل مشكلة البطالة المتنامية يوماً بعد آخر ومنها فشلها في إنتاج قيادات قادرة على التناغم مع الشارع الغربي (ديفيد كاميرون نموذجاً) وصولاً إلى عولمة الاقتصاد العالمي التي زادت الطين بلّة، فهي عملت على هروب كبير لرؤوس الأموال من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة بحثاً عن أيد عاملة رخيصة تحقق مكاسب أكبر.
كان الخيار المطروح في مواجهة التخلي عن الليبرالية هو الشعبوية التي غزت المجتمعات الغربية في العقدين الماضيين وهي نزعة أيديولوجية تقوم على إثارة العواطف والمشاعر كوسيلة أساسية في حشد الشارع وراء سياسات قد لا تكون بالضرورة معبرة عن متطلبات المرحلة أو أنها قد لا تكون متناسبة مع الحقائق أو الوقائع القائمة في البلاد أثبتت المناظرات الثلاث أن هناك فوارق كبيرة في كاريزما الشخصية بين المرشحين تصب في مصلحة كلينتون التي بدت واثقة من نفسها ومتقنة بدرجة كبيرة لما هو مطلوب منها، على حين أن خصمها ترامب بدا كأنه بحاجة إلى إعادة تأهيل فقد استطاع خصمه إغراقه في «شبر ماء» كما يقال لتكون أفضل نتيجة حصل عليها 39% على الرغم من أن ذلك لا يعبر بشكل دقيق عن مزاجية الشارع الأميركي فهذا الأخير تنتابه- مثله مثل باقي المجتمعات الغربية- نزعة شعبوية عارمة أصدر عنها معهد «كارينغي» للدراسات في آب الماضي تقريراً مطولاً جاء فيه: «إن تلك النزعة (يقصد الشعبوية) هي الآن نزعة طاغية على أي نزعة أخرى» ولذا فإن من الجائز القول: إن خللاً قد جرى في طرق تجيير أو استغلال تلك النزعة قد أدى إلى تعثر وصول ممثليها إلى سدة السلطة في واشنطن أقله حتى الآن وما لم يحدث أمر خارق قبل 8/11/2016.
هذا الواقع فرض العودة إلى السيناريو السابق (أي إلى تزويق الليبرالية) الذي جاء برئيس «أسود» للمرة الأولى في عام 2009، ومن المفترض أن يتابع مساره عبر الآلية نفسها بوصول سيدة أميركية إلى البيت الأبيض وهو ما يمكن أن تحققه هيلاري كلينتون في انتخابات تشرين الثاني المقبلة وهي سابقة- إن حدثت- فسوف تكون أيضاً للمرة الولى في تاريخ الديمقراطية الأميركية، وكلا الحدثين لن يكتمل في تحقيق الزركشة المطلوبة إلا بوصول رئيس يهودي إلى سدة السلطة في واشنطن الأمر الذي قد يحدث في انتخابات 2021 (أو 2025 إذا ما فاز الرئيس القادم بولاية ثانية).
بقي أن نشير إلى أمر مهم يمكن أن تشهده الانتخابات المقبلة وقد مهد له ترامب بقوله: إنه يتوقع تزوير الانتخابات ثم أضاف: إنه عندها لن يعترف بفوز خصمه، في استعادة لسيناريو كان قد حصل في انتخابات 2004 عندما قيل إن تزويراً قد حدث لمصلحة الفائز الجمهوري جورج بوش الابن الذي كان قد فاز بفارق ضئيل لا يزيد على 1% على خصمه الديمقراطي آلبرت أرنولد غور، وإذا ما كانت «المؤسساتية» الأميركية قد استطاعت آنذاك حسم ذلك الخلاف بإصدار قرار عن المحكمة الدستورية العليا يقضي بفوز بوش الابن إلا أن ذلك كله ما كان ليساوي شيئاً لولا قبول آل غور بذلك القرار، اليوم بات من الصعب- إذا ما قيض لذلك السيناريو التكرار- القول بأنه سوف يجد طريقاً سريعاً للاحتواء، وهو أمر- إذا ما حدث- فلسوف يشكل ظاهرة تستحق التوقف في مسار الديمقراطية الغربية برمتها.