أردوغان وتشبيك البحار الثلاثة.. بقلم: لؤي حسن

أردوغان وتشبيك البحار الثلاثة.. بقلم: لؤي حسن

تحليل وآراء

الخميس، ٢٠ أكتوبر ٢٠١٦

لا يمكن أن يكرر التاريخ نفسه، وإذا فعل فإن نسخته الثانية ستكون «ملهاةً مضحكة» على حد وصف كارل ماركس. بل حتى الاحتيال عليه في مقاربة هدف بأسلوب مشابه لنهج سابق، قد تفضي إلى هزيمة تاريخية، كمحاولة بريطانيا استعادة حضورها (الأمبراطوري) في الهجوم على مصر إثر تأميم قناة السويس، فأصابها ما أصابها من خيبة، وعلى يد أميركا التي كانت صاحبة اليد العليا في إفشال «العدوان الثلاثي». أيضاً، وبنتيجة مشابهة، اصطدم الحلم الامبراطوي لأردوغان في أبجديته العثمانية بحائط الممانعة التاريخي. أخذ يتلاشى بدايةً من مصر، مع سقوط مرسي، ويترنح في سوريا، ويلفظ أنفاسه بعد الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا تموز المنصرم وبرعاية أميركية!
لعل خيبة المشروع الأردوغاني تعود أسبابه إلى سوء قراءة التاريخ العربي القريب، ليستخلص على ضوئه إمكانيات الحاضر ومن ثم توظيفها بما يصنع آفاقا تركية واسعة وراسخة على مستوى الإقليم. لكن في مكان آخر أحسن رجب طيب أردوغان قراءة التاريخ العثماني مستخلصاً منه العبر. وكان منها أن انهيار الدولة العثمانية بدأ بضعف الاقتصاد وزيادة المديونية لسد العجز في خزينتها، كما أدرك أن الحروب التي خاضتها قد استنزفت مواردها وشكلت عبئاً على مواطنيها. وعليه، فقد ركز أردوغان منذ وصوله إلى السلطة في 2002 على نقطتين: «صفر مشاكل مع المحيط»، والحرص على دفع الاقتصاد التركي إلى الأمام. وبالفعل سجل هذا الاقتصاد نمواً مطّرداً منذ وصوله إلى الحكم، حتى غدا ثاني أسرع اقتصاد نمـواً بعد الصين. فوفقًا لـ«منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» (OECD)، حققت تركيا نمواً سنوياً بمتوسط 6.5 في المئة بين 2011 و2015، لتصبح أسرع بلدان المنظمة نمواً اقتصادياً.

براغماتية العلاقة مع إيران
من جهة أخرى، سعت تركيا لعلاقات اقتصادية مع إيران وصلت إلى درجة متقدمة؛ إذ برغم عضوية تركيا في «الحلف الأطلسي»، فقد استطاع أردوغان أن يقيم نوعاً من التوازن بين ثلاثة أمور؛ متطلبات عضوية بلاده في الحلف المذكور، والحاجة لعلاقات اقتصادية جيدة مع إيران، والتباين مع هذه الأخيرة في ما يتصل بالحرب الدائرة في سوريا. ولعل هذه بالذات طرحت تساؤلات عدة، لكنها لن تفاجئ المطلع على تاريخ البلدين. فحقائق التاريخ مثل عائمات الجليد ـ على حد وصف حسنين هيكل ـ «طرفها ظاهر فوق الماء وكتلته الرئيسية تحت سطحه، ومن يريد استكشافها فعليه أن يغوص». لا بد أن أردوغان اطلع على البعد التاريخي للعلاقات التجارية بين البلدين، ولعل هذه الواقعة تختصرها. وقد جاءت حين أصدر السلطان سليم الأول في سياق صدامه مع الدولة الصفوية أمراً بإعدام عدد من التجار الأتراك الذين عصوا قراره بوقف التعامل التجاري مع إيران، بالنظر لما لحق بهم من خسائر! يومها جاءه «شيخ الإسلام» ـ مفتي الدولة ـ ونهاه عن ذلك. وبعض الكتب تذكر ما دار من نقاش حاد بينهما، حسمه المفتي بالتجرؤ على تهديد السلطان بإصدار فتوى تقضي بعزله بداعي أن ما فعله مخالف للشريعة! فامتثل له تجنباً لمزيد من المتاعب على ما ذكره بعض المؤرخين. وتبقى العبرة هي في ذلك الحرص على تحييد التجارة والمنافع بين «البازارين» التركي والإيراني عن الصراع السياسي بين الدولتين. وهذا عاد وتكرر بطبعة جديدة في القرن الحادي والعشرين، حين رفضت تركيا وهي «الأطلسية» أن تنضم إلى رهط المحاصرين لإيران ومقاطعتها. بل على العكس زادت من حجم التبادلات التجارية معها، ما خفف من وقع العقوبات المفروضة على ايران، حتى صُنِفت تركيا من بعض المسؤولين في واشنطن كـ «محامٍ لإيران». وفي ما بعد كانت تركيا في طليعة الدول التي رحبت بالاتفاق النووي الإيراني، برغم تحفظ دول الخليج عليه. واستطراداً، للمزيد من التبيان، فقد زاد حجم التبادلات التجارية بين البلدين عن 30 مليار دولار نتاج بروتوكولات تجارية معقودة بينهما، من أبرزها اتفاقية الإعفاءات الضريبة.
لا شك بأن أردوغان كان براغماتياً في الشأن الإيراني، متجاوزاً تركات الماضي وتباينات الحاضر السياسية. وكان ملتزماً حيالها بالذات باستراتيجية «صفر مشاكل»، التي وضعها له داوود أوغلو مع تبوّء حزب «العدالة والتنمية» السلطة العام 2002. المفارقة أنه انقلب عليها عند الضفة السورية، فضرب بالحائط مستوى العلاقات المتقدمة بين البلدين، التي فاقت من حيث الكيف ما هو معقود مع إيران، لا بل بين سوريا وإيران، حيث تأطرت في ظاهرة غير مسبوقة بتشكيل «مجلس التعاون الاستراتيجي السوري التركي» عالي المستوى، الذي تم في إطاره توقيع 51 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبرنامجاً تنفيذياً وبروتوكول عمل، منها ذو طابع دفاعي وأمني، وفي المجال التجاري بلغ حجم التبادل بين البلدين العام 2011 قرابة 3 مليارات دولار. لكن الأبلع ما شكلته سوريا من ممر أمثل للبضائع التركية التي اجتاحت الأسواق اللبنانية والأردنية والمصرية، فضلاً عن أسواق بلدان الخليج العربي والسوق السورية. وارتفع عدد المشاريع الاستثمارية التركية في سوريا بنحو 100 في المئة، وشكل المستثمرون الأتراك في المدينة الصناعية بحلب وحدهم نحو 40 في المئة من المستثمرين العرب والأجانب.

الأخطاء الثلاثة
وللمفارقة فإن هذه العلاقات كانت غالبيتها لمصلحة تركيا، حتى أثرت سلباً على قطاع الأعمال السوري. إذ تعرضت صناعة المفروشات المنزلية لمنافسة قوية أدت إلى إغلاق 20 في المئة من المنشآت في هذا القطاع. كما تراجعت صناعة الملابس والنسيج السورية؛ وقدرت «هيئة تنمية وترويج الصادرات السورية» عدد المنشآت النسيجية التي أغلقت جزئيا أو بالكامل، جراء ذلك، بما يتراوح بين 70 و100 منشأة! ترى ألم يكن ما سبق كافياً وافياً لكي يلج أردوغان بـ «حلمه العثماني» من بوابات العصر حيث الاقتصاد والمصالح؟ إن بروز موجة «الربيع العربي» واعتقاده بإمكانية استثمارها، أغرى حنينه للأبجدية العثمانية القديمة، يكتب بها سفره السياسي خلافةً إسلامية على طريقة الأجداد. فظن «الإخوان» حصاناً مناسباً يقاتل فيه، لا سيما بعد نجاحهم في انتخابات الرئاسة المصرية. فزج بفرعهم السوري ليسقط به النظام، من غير معرفة قدراتهم وهم خارج المضمار السوري منذ أربعة عقود. وهذه كانت أول أخطاء أردوغان. أما الخطأ الثاني فكان انخراط أردوغان في اللعبة الأميركية ظناً أنها ستحجز له مكاناً في «الشرق الأوسط الجديد». وبذلك استهلك مشروعة العثماني بصيغته «المعاصرة». أما الخطأ الثالث، بل الخطيئة، فكانت اعتقاده أن الغرب سيسمح له بتحقيق حلمه الإمبراطوري بمجرد أن يرشيه بمسايرة إسرائيل ومجاراة أميركا في إسقاط الرئيس السوري، والخطيئة هنا أغفلته عن جذر «المسألة الشرقية»، ومنها أن الغرب وامتداده الإسرائيلي لا يرضى بالمشاريع المشرقية العابرة للحدود. وعليه لم يكن الغرب يوماً مطمئناً لأحلامه.
بناءً عليه، من الجائز الاعتقاد أن أميركا قد زيّنت لأردوغان الانغماس في المستنقع السوري بغية استنزافه سياسياً وحرق أوراقه مع سوريا، مدخله إلى آسيا العربية، ومنها نسف استراتيجية «تشابك البحار الثلاثة» التي كان يسعى إليها الرئيس السوري. والخطأ ذاته يكرره الآن من مكان آخر مع العراق، الذي يفترض أن يوحده معه الهم الكردي. يقابله انزلاق السعودية في المستنقع اليمني وبإغراءات أميركية. وهذا أمرٌ يستدعي قواعد جديدة في تقويم أحداث المنطقة، منها أن أميركا تسلك سياسة الأرض المحروقة في صناعة «الشرق الأوسط الجديد «، من دون التميز بين عدو وحليف. والدليل الساطع دعم أميركا لقيام كيان كردي في سوريا، فضلاً عن احتضانها وربيبتها إسرائيل لإقليم «كردستان العراق». هكذا، تغدو رعاية كيانات كردية في الجانب العربي وعلى تماس مع تركيا وإيران استثماراً أميركياً جيوبوليتيكياً بعيد المدى، إن لم يكن متوسطه، لضرب وحدة أكبر دولتين إسلاميتين في المنطقة، أي تركيا وإيران، والسعودية على الطريق ولكن بوسائل أخرى، علماً أن هذه الأخيرة لمئة سبب غير مؤهلة للتفكير بشكل مستقل وخارج «المرجعية الأميركية».
إن ما بين تركيا وإيران، وما بين كل من إيران وسوريا والعراق، وكل هؤلاء وروسيا، شبكة إقليمية من المصالح تستدعي طرح استراتيجية «تشبيك البحار الثلاثة»، وهي صيغة يجمعها عصبان قويان؛ تداخل المصالح الاقتصادية، وضرورات الأمن القومي لأربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا، تشكل روسيا لها مظلة حماية بقدر ما هي معنية بهذه المظلة. يبقى أردوغان المنخرط بزواريب الحرب السورية عقبةً أمام فتح هذه الشبكة. فهل تستطيع موسكو أن ترده إلى الجادة؟