غياب الثقافة .. تنازل عن الوطن.. بقلم:  إسماعيل مروة

غياب الثقافة .. تنازل عن الوطن.. بقلم: إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الاثنين، ١٧ أكتوبر ٢٠١٦

في مواضع عديدة أشار كثيرون إلى أن المفصل الأكثر أهمية في حياة الأمم والبلدان هو المفصل التربوي والثقافي، وهذا الأمر حقيقة لا مراء فيها، مع أن العلميين ينظرون إلى المشكلة بأنها مشكلة علم، والقضاة ينظرون إليها على أنها أزمة قضاء، والاقتصاديين يرونها أزمة اقتصادية، وعلماء الاجتماع يحصرون الأمر في أنه مشكلة اجتماعية، وهكذا… ولكن المتمعنين وهم الأكثر صوابية يرون الأزمة أزمة ثقافة وتربية، وهذه الرؤية هي الأكثر قرباً من الحقيقة، فالثقافة والتربية أساس، وبعدها ينطلق من أراد إلى الجوانب كافة، وخاصة أن الرؤى الأخرى تشكل اختصاص ما بعد التكوين، وإن كان ثمة من مشكلة في الجوانب القضائية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فهي نتيجة طبيعية لمعضلة استفحلت في التربية والثقافة وتصبح كل أنواع التغيير والإصلاح غير قادرة على معالجتها، لأنها جزء أساسي من التكوين الذي بني على أساس غير قويم… واليوم في خضم تحليل ما أطلق عليه الربيع العربي أو الخريف العربي أو الجحيم العربي، وهو جحيم لا يمكن لأحد إنكاره، فأي ربيع هذا الذي يدمر ويشرد ويجوّع ويغير مسلّمات المجتمع؟! في خضم التحليل نسمع آراء لا يمكن أن تملك أي مقوم من مقومات السلامة، لأنها وقبل كل شيء تخضع للتسييس، وتصدر عن آراء وأمنيات ليست دقيقة، ولا يمكن أن تكون قابلة للحياة! فلا ينظر اليوم إلى حالة من الفوضى ويهمل التاريخ المتراكم، ولا يقبل من أحدهم أن يتحدث عن تطرف وهو الذي تعامى وتجاهل كل أنواع التطرف ولم يعمل على علاجها: ولا يجوز لأحدهم أن يتحدث عن الاستبداد وهو جزء مكمل، والأخطر مجمّل لهذا الاستبداد! لا يمكن أن ينظر إلى ما يجري على الأرض العربية اليوم بمعزل عن التربية التي عادت مكانتها إلى الوراء، ولم تعد أولوية في مناهجها ولا طرائقها ولا محتواها! وبمعزل عن الثقافة التي عادت إلى مكان مظلم، فلم تعد تجد أي نوع من الاهتمام، بل وقد عملت جهات مسؤولة على تقزيم دور الثقافة والمثقف وسخرت منه، وأعطته حين أعطته فتات ما يزيد عن رصاصة وما شابه ذلك، وعندما تباهى عدد من المعنيين بأن وزارة الثقافة هي وزارة دفاع سخر منهم الناس، وهم يستحقون ذلك، لأنهم يستعملون تعبيراً نبيلاً وصحيحاً، ولكن لم يعملوا عليه على الإطلاق، وفي أثناء تسلمهم مقاليد الثقافة، وسّعوا الهوة بين المثقف والثقافة، وهذا أخطر مما قبل عندما كانت الثقافة في غربة عن المجتمع!
كنت أتمنى من بداية الأزمة، ومما قبل أن ينبري أحدهم لجمع أقوال المعنيين بالثقافة والمثقفين، لأخذ ما يمكن الأخذ به، وربما تكون الغاية اللاحقة تحديد الركائز الفكرية لهذا المثقف أو ذاك، وخاصة أن بعض هؤلاء لا يتجاوز أن يكون باحثاً أكاديمياً لفائدة نفسه واسمه، وأسبغ على نفسه صفة المفكر والرائد وما شابه، أو أسبغ عليه مريدوه، وعندما نستعرض هذه الآراء، وسأبتعد عن الأسماء، وسيعرفها القارئ الكريم، سنكتشف أننا في ثقافتنا نفتقد ذاك المثقف الذي يستحق أن يحمل لقب المفكر، هذا المثقف الذي لا تميل به الأهواء والآراء، والذي لا تغيره الظروف والعواصف، ويمكن أن يقف مع الحق الذي يراه فكرياً، وإن تعارض مع مصالحه، ولا يمكن أن يخرج عن قناعاته الفكرية، لأنه يمثل رمزاً للمعرفة والفكر وحرية الرأي ونزاهته… وسيتكشف وهذا أكثر إيلاماً أن جلّ ما يصدر عمن نسبغ عليهم صفات الثقافة والفكر والتحليل والتأمل لا يعدو أن يكون وقفت ارتجالية طارئة، تتغير بتغير الموقف والمنبر، وكل ما يحيط به، فهو حاطب ليل يجمع شذرات من الشوارد التي تنهمر عليه، فهذا باحث في لحظة ما من زمن الدعة الجميل يقول عن أسباب التخلف المعرفي «افتقار الحكومات إلى الوعي بأهمية المعرفة في المجالات العلمية والفلسفية والاجتماعية وأي مجال آخر، ليس هناك أي قدر من المعرفة الحديثة لدى السلطات العربية الحاكمة، ولا ترى هذه في الجامعات ومراكز البحث جهات منتجة للمعرفة من الضروري أن تكون على صلة بها وتماس دائم معها، بما أن هذه السلطات تدير بلدانها دون معرفة علمية ومنهجية بأحوالها، فإنها لا تدرك أصلاً أهمية المعرفة ولا تشعر بالحاجة إليها، وتحجم عن تطوير مؤسساتها خشية أن يسهم إنتاج المعرفة في تقويض الأمر القائم أو إضعافه» اقتبست هذا النص بحرفه لهذا الباحث لأكثر من سبب، ومن أهم الأسباب أنه يتناغم مع الرؤية العميقة لدور الثقافة والمأسسة الثقافية والعلمية والبحثية، فهو يضع يده على نقاط غاية في الأهمية، ولأن الكاتب يشير بإصبع الاتهام إلى السلطات العربية في حرصها على تعويم ثقافة الجهل، وعلى إهمال البحث ومراكزه، والجامعات ودورها، وهذا حقيقة وكنت أتمنى أن يبقى هذا التيار العلمي المعرفي قادراً على توجيه الأنظار إلى أسباب التردي المعرفي، لأن الرقي المعرفي سيؤدي حتماً إلى تقويض الاستبداد أو التخفيف منه! لكن هذا الكاتب في أثناء الربيع العربي تلطّى بسلطات يراها مستبدة ومتخلفة، وتخلى عن دور البحث ومراكز البحث، وأعلن أنه لا يعنيه الدمار ومقداره، وإنما الذي يعنيه تغيير الأنظمة، وفي كل مرة يتحدث فيها تنزل أسهمه نزولاً مخيفاً، لنتبين أنه باحث وقارئ، يجمع ما تجود به قرائح الباحثين ويعمل على تكييفها حتى يبدو للآخر أنها من صنعه هو!!
هؤلاء الذين ظهر مقدار تناقضهم مع طروحاتهم وممارساتهم كثر، وآراؤهم مبثوثة في وسائل الإعلام المؤرشفة، وفي الكتب والدراسات، فهل انبرى أحدهم لإظهار هذا الفصام الصعب؟ وهل أدرك أغلبنا أن المعضلة الحقيقية هي معضلة ثقافة وتربية قبل أن تكون معضلة سياسة وتطرف وعنف؟
وهل نعترف بأن تخلي الحكومات العربية عن الدور الثقافي والفني أدى إلى وجود هذا الخلل، وتفريخ القنوات الأخرى التي ينهل منها شبابنا؟ إن التنظير قد يستقطب بعض جمهور، ولكنه لا يصنع وطناً! وحتى الجمهور الذي يستقطبه لا يلبث أن ينفضّ عنه لأنه يكتشف الوهن في التنظير، والهوة الفاصلة بين تنظير وممارسة! هل يستوي أن يدعو أحدنا لبناء بلده، وفي الوقت نفسه يفرح بدمارها انتقاماً من أحد كان يتلطّى في ظله قبل الانقلاب؟! لا شك في أن أهمية الفكر تكون في ثباته على مرتكزات لا تتغير بتغير الظروف والأزمنة، وهذا ما كان من المفترض أن تؤديه القنوات الثقافية الحكومية خاصة.. ولكن عندما تنازلت الثقافة عن دورها المعرفي تماهت الصور، وصار كل بهلوان مفكراً!!