في اغتيال المثقف وإعدامه.. بقلم: محسن المحمد

في اغتيال المثقف وإعدامه.. بقلم: محسن المحمد

تحليل وآراء

الاثنين، ١٠ أكتوبر ٢٠١٦

لربما ليس ثمة ما نضيفه في قضية اغتيال المثقف ناهض حتر، فقد بات من المعروف أن اغتياله جاء لأسباب سياسية بحتة، وما الغطاء الديني ومسألة تطاوله على الذات الإلهية عبر مشاركته رسماً كاريكاتورياً على صفحات التواصل الاجتماعي، إلا ذريعة واهية ما عادت تسعف حتى الأقلام المأجورة. وهذا ينسحب على كل ما يجري في المنطقة من صراعات سياسية، ما الدين فيها إلا واجهة لصرف الأنظار عن الصراع الحقيقي. وبعد هذه النهاية المؤلمة لحتر، السؤال الذي ينبغي طرحه هو: هل حقيقة اغتيال المثقف وإعدامه تكمن في السياسة أم في الدين؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال قراءة مقتضبة لقضايا اغتيال وإعدام لمثقفين في الحاضر العربي والماضي العربي الإسلامي.
التكفير في الحاضر العربي
لدينا في الحاضر العربي القريب قضية اغتيال فرج فودة التي حاولت السلطات المصرية وبعض الأوساط السياسية إظهارها على أنها قضية إرهاب إسلامي فحسب، بينما يدفعنا التدقيق في كتاباته إلى التشكيك بذلك وإلى البحث عن سر اغتياله، ليس في بحثه التاريخي الاستشراقي الذي يظهر فيه عدم طهرانية التراث الاسلامي ومفاهيمه، ولا في بحثه ونقده الليبرالي لتجربة الخلافة الإسلامية من الراشدة إلى العباسية (انظر كتابه «الحقيقة الغائبة») وإنما في كتابه «الملعوب». ففي هذا الكتاب يفضح شركات توظيف أموال يقف وراءها رجال دين وسلطة تستخدم غطاء إسلامياً لتسهيل عملية النهب لمدخرات الشعب المصري. وهنا يكمن سر اغتياله، إذ إنه هدد تحالف السلطة والمال المغطى برداء ديني إسلامي. كما هو الأمر في قضية تكفير نصر حامد أبو زيد التي جاءت على أرضية مواجهته فكرة البنوك الإسلامية. وتأتي قضية إعدام المفكر السوداني محمود محمد طه لتؤكد أيضا محورية السياسي في قضية اغتيال المثقف أو إعدامه. ففي تأويله النصَّ الديني تأويلاً معاصراً متناسباً مع قيم التحرر الاشتراكي وجاذبية حركته السياسية والاجتماعية لجمهور كبير من المتدينين، دفع ذلك كله السلطة الرأسمالية الرثة في السودان المتمثلة بحكم «الإخوان المسلمين» وبوزير العدل الشيخ حسن الترابي إلى الحكم عليه بالإعدام لاعتبارات كاذبة، تدعي أن كتاباته هي تخريب للدين الإسلامي. ولتأكيد ما ذهبنا إليه من خطورة تأويله للنص الديني على الأسس الفكرية للطبقة الرأسمالية التابعة في السودان، نقدم تأويله لإحدى الآيات القرآنية. فهو يفسر كلمة الماعون في آية /الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون/ بأنها تعني القلب يمنعونه من الله أن يكون فيه ويملؤونه بأصنام حب الجاه والمال والسلطة (انظر: محمد طه، محمود. رسالة الصــــلاة، أم درمان، السودان، 1970، ص 95). إذاً نحن أمام إعدام لأسباب سياسية، وما تهمة تخريبه للدين إلا حجة واهية.
إعدامات من الماضي
وفي الماضي العربي الإسلامي لدينا قضية إعدام القطب الصوفي الحلاج وفيها نجد آراء كثيرة تحيل إعدامه إلى خروجه عن الدين أو عن العقل الإسلامي الرسمي، لقوله بالحلولية المعبر عنها بنصوص وأقوال كثيرة، منها قوله «أنا أنت بلا شك... فسبحانك سبحاني»، أو قوله «أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا» (الحلاج، الأعمال الكاملة، دار رياض الريس، بيروت، ص 327، 330). لكن التدقيق التاريخي يبين أن هناك من خرج عن العقل الإسلامي الرسمي في فترة الخلافة العباسية ولكنه لم يُضطهد ولم يعدم، كمثال على ذلك البسطامي وشطحاته التي خالفت الدين الرسمي (أيديولوجيا الخلافة العباسية). فيكفي الاطلاع على بعض شطحاته حتى ندرك مدى ابتعاده عن الدين الرسمي وتطاوله عليه، فيقول مثلاً: «خضت بحراً وقف الأنبياء بسواحله»، أو قوله «طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك» (أبو يزيد البسطامي، المجموعة الصوفية الكاملة، دار المدى، دمشق، ص 49). إذاً لنبحث عن سبب إعدام الحلاج في سياق آخر. فالتدقيق بسيرة الحلاج يجعلنا نفكر بعلة أخرى لإعدامه، إذ إن سيرته تقول إنه تحرَّك سياسياً واجتماعياً، منسجماً مع حركة القرامطة السياسية المعادية للخلافة العباسية المتمثلة بالخليفة المقتدر. وقد شمل مجال عمل الحلاج طيفاً واسعاً من النخب والعامة من توجهات مذهبية وفكرية مختلفة، فكان من جملة المتعاطفين معه مثلاً جمهور بغداد من الحنابلة وبعض قياداتهم مثل ابن عقيل ومحمد بن خفيف. كل هذا دفع سلطة الخلافة إلى التحرك بسرعة للقضاء على هذا المسعى السياسي والاجتماعي المتجاوز للخلافات المذهبية الدينية، والداعي إلى نصرة الفقراء والمستضعفين في وجه سلطة استبدادية. من هنا نرى أن إعدامه كان لأسباب سياسية وليست دينية أو فكرية خالصة (انظر: العلوي، هادي. مدارات صوفية، دار المدى، دمشق، من ص 127 إلى 132). وهناك أيضاً مثال آخر يؤكد فكرتنا، وهو إعدام الفيلسوف الإشراقي شهاب الدين السهروردي، الذي جاء بقرار من القائد صلاح الدين الأيوبي إرضاء لحفنة من رجال الدين وذلك لحاجته لهم في التعبئة الدينية ضد الغزو الصليبي. وبالتالي قضية إعدامه لم تكن لأسباب دينية فكرية بحتة، بل لأسباب ارتبطت بمصلحة سياسية. وهنا لا نهمل أهمية فكر التصوف والإشراق القائم على أسس تنسف الأسس الفقهية والشرعية لسلطة الخلافة. فقول الحلاج بالحلولية أو السهروردي بتعدد الوسائط بين السماء والأرض، يعني إلغاء للوسيط الوحيد بين الله والإنسان، وبالتالي هدم الأسس الأيديولوجية لسلطة الخلافة المتمثلة بالشريعة كما تم صياغتها من قبل فقهاء السلطة. ولكن الفكر، حتى ولو كان في صلبه معارضة ما، لا ينظر إليه كخطر كبير على الطبقة المسيطرة ما دام بعيداً عن أي تحديدات سياسية على الأرض.
إن هذه النظرة السريعة لبعض قضايا إعدام واغتيال لمثقفين تبرهن على ما يلي: بالمقدار الذي يصبح فيه المثقف تهديداً لمشروع سياسي أو لأحد وجوهه، تُسلط عليه قوى الإرهاب الإسلامي أو يتهم بالخروج عن الدين وإهانة المقدسات. وما أن يمس المحظور السياسي المتمثل في تهديد مصلحة طبقة مسيطرة وطغمتها المالية أو نظام سياسي أو مشروع سياسي، حتى يغدو في دائرة المحظور الديني.