العرب والإمبراطورية المنشودة: تحديات التقوّم العربي

العرب والإمبراطورية المنشودة: تحديات التقوّم العربي

تحليل وآراء

السبت، ١ أكتوبر ٢٠١٦

تحت عنوان «صراع الإمبراطوريات على أرض المسلمين: لماذا لا يحقق العرب إمبراطوريتهم المؤجَّلة؟»، يطرح البروفيسور خليل أحمد خليل في كتابه قيد الطبع فرضيات تُثار ـ غالباً - في الخفاء السياسي. ينطلق من فكرة أساسية مفادها: تغالُب إمبراطوريات كبرى ناجزة (أميركا، روسيا، الصين، الاتحاد الأوروبي) على أرض المسلمين، وتصارُع إمبراطوريات خفية ووسطى (إيران، تركيا)، في حين أن العرب يواجهون عمليات هدم ذاتي في شرق أوسط متفجّر، يمنع عنهم الانتقال بالجماعات البشرية من طورها القبلي إلى طور الدولة الإمبراطورية المتعددة الأعراق، وفقاً لمسارات التقوم العربي الحضاري. وفي ضوء الحديث عن المحور الإمبراطوري الإيراني أو رهانات ما يُسمّى بـ «الإمبراطورية الشيعية» وحلفائها في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق، تسعى تركيا الوافدة من «العثمنة إلى العلمنة» لتحقيق حضورها عربياً، على خلفيات متناقضة تتصارع فيها «الإسلاموية السنيوية» و «القوموية التركية» واستعادة الأمجاد العثمانية.
يؤسس خليل أفكاره على مسار متدرّج، محاولاً قراءة التوترات السنية الشيعية الراهنة في مجالها الدنيوي والمقدس، وملاحظاً أن الاعتراف المأمول بين السُنة والشيعة لم يقع إيديولوجياً، وإن حدث سياسياً، نسبياً وجزئياً. تاريخياً، استبعد الشيعة باسم وحدة الإسلام، في مراحل التأبطر العربي الإسلامي كافة؛ فكانت الخلافة «ملكاً لذوي السيوف والأسنان»، وكان التصادم القاتل بين سيف علي وسيف معاوية، وهذا ما يتجدد حالياً في الشرق الأوسط، لكن بطائرات وصواريخ ومدافع.
لقد جرى منذ بضع سنوات الانتقال بالصراع من صراع عربي - إسرائيلي إلى صراع عربي ـ إيراني، وضمناً صراع شيعي ـ سني، ينهض على ثلاثة محاور إقليمية وسطى: تركيا، وإيران، ودول «مجلس التعاون الخليجي»، فأين هي مصر؟ يراهن العديد من المراقبين على أن إيران تخفي مشروعها الثوري وراء قناع إمبراطوري شيعي، مقابل أقنعة إمبراطورية عربية سُنية. في المقابل تفكِّك الإمبراطورية الأميركية العالم العربي، هذه الإمبراطورية الكبرى المؤجلة، بحسب عبارة جاك بيرين، وتعتمد في استراتيجياتها على استئناف الاستعمار الجديد، و «أخذت الولايات المتحدة، وهي تجيز لإسرائيل تعزيز نفوذها في المنطقة، تؤذي أوروبا بدهورة علاقاتها مع العالم العربي، وبذلك حققت واشنطن هدفين: أولهما تحطيم احتمالات نهوض العالم العربي لبناء نهضته واتحاده (مقابل الاتحاد الأوروبي وبموازاة الإمبراطوريات الكبرى)؛ وثانيهما تسويد صورة أوروبا، لاسيما فرنسا لدى العرب والمسلمين». إن معامل التأبطر الأميركي تتمظهر من خلال مؤشرين: الأول، التوحيد القهري للآداب والأذواق والرغبات، واستواء التقاليد والمظاهر والقصور الروحي واللامبالاة العالمية؛ والثاني، تفكيك كل ما يشكل هويات جماعية (وطنية، قومية، دينية) مضادة، وتحويلها إلى فئات مسحورة، كتلة أفراد غير متمايزين ولا ثقافيين ولا وطنيين، لكنهم استهلاكيون قابلون للاستعمال والتبديل.
يقرأ صاحب «العقل في الإسلام» رهانات الشرق الأوسط المعاصر في أقطابه: تركيا والعرب وإيران، وذلك وفق ثلاثة أحداث مفصلية: قيام الثورة الإسلامية في إيران، تأسيس دول «مجلس التعاون الخليجي»، وعودة تركيا عبر «العثمنة» إلى العالم العربي. إيرانياً، أعلن الخميني صعود ثورته من المذهبية الشيعية إلى الإسلامية الجامعة، لكنه اصطدم بالجدار السني الخفي (عند العرب والترك) وتحول «تصدير الثورة» إلى سقوط في شيعوية محاربة، مقابل سنيوية مجاهدة، وبذلك حدث هبوط في الإيديولوجيا الإسلامية الإيرانية، وتراجع غير معلن من الشيعوية إلى القوموية الاجتماعية. تركياً، حدث صعود من الإسلاموية السنيوية إلى القومية التركية. وعلى غرار إيران فشلت تركيا في رهاناتها على أخونة مصر ومحيطها العربي المباشر، فترتّب على ذلك هبوط الحكم التركي الأردوغاني، من الإسلاموية إلى المذهبية السنيوية. عربياً، تجلّى صعود المملكة العربية السعودية ومحورها الإمبراطوري (مجلس التعاون) من المذهبية الوهابية، الأقلوية، إلى إسلاموية سنيوية أكثرية، وذلك بعد فشلها في احتواء الشيعوية العربية المُستثمَرَة إيرانياً تحت ستار الممانعة ومقاومة إسرائيل وأميركا.
إن الرهانات الأردوغانية أفضت - بحسب تحليل الكاتب - إلى حالة استقطابية جديدة في الداخل التركي: السني في مواجهة العلوي، التركي في مواجهة الكردي، المسلم في مواجهة المسيحي الأرمني واليوناني، والمتديّن في مواجهة العلماني. لقد رأت تركيا أن مفتاح المشرق العربي هو السعودية: لا سوريا ولا العراق ولا لبنان ولا فلسطين، عند إيران الخمينية. والحال يتساءل خليل: هل للعالم العربي مفتاح واحد؟ وتالياً، هل محور السعودية ـ الخليج هو نواة إمبراطورية عربية ـ إسلامية (...). إن ما يحدث في المنطقة منذ 2003 حتى اليوم، غير كافٍ لاستجلاء الخلق السياسي الجديد، فإن ما يرشح من علاقات القوى المتصارعة ينضح منذ الآن بكاريكاتور «إمبراطوريات إسلامية» عناوينها: تركيا، إيران، والسعودية. وعلى إيقاع التوتر العربي - الإيراني المتصاعد على خلفيات سياسية ومذهبية، وهواجس عربية من الثورة الإيرانية الخفية وما تستبطنه من محركات لمولد «إمبراطورية شيعية»، يضع صاحب «شيعة لبنان والمشرق العربي» إيران والعرب أمام سؤالين: هل يجهل العرب مثلاً أهمية إيران الحديثة في تطوير المدار الحضاري الإسلامي ـ العربي؟ وهل تجهل إيران أهمية الإسلام العربي، الإمبراطوري المؤجل، فتسعى إلى إنشاء إمبراطورية إسلامية ـ شيعية عابرة للقوميات؟ يرى خليل أن إيران تتأبطر بموازاة تركيا والسعودية، بعد تهميش مصر (منذ اعترافها بإسرائيل) كمركز ثقل لقيادة العالم العربي وتوحيد خلافاته، فجعلت من سوريا «جوهرة المحور الإمبراطوري» أو ما نسمّيه هنا «البنتاغون الشيعي» أو ما أسميناه سابقاً «الاتحاد السوفياتي الشيعي». ولكن ألا يُخفي التأبطر الإيراني أعطاباً وسلبيات كثيرة إزاء القضايا العربية ومخاوف الدول المحورية من الرهانات الإيرانية التوسعية؟ لا يتردد الكاتب في تحديد العوامل الرئيسة التي تقلق العرب، ولا يتوانى عن نقد نظام الحكم في إيران، مشيراً إلى أنه من الصعب الكلام عن نظام ثيوقراطي توتاليتاري، بقدر ما يصعب توصيف هذا النظام المركب بأنه «متعدد الأحزاب» أي ديموقراطي محض. يجترح خليل مصطلح («régime Démo-dictatorial) أي نظام مركب ديموقراطي ـ ديكتاتوري، ويخلص في نهاية تحليله إلى أنه إذا كان «الإسلام نفسه «مألفة أديان» فلن يكون بإمكان أي من فروعه الكبرى (المذاهب السنية والتشيع) ابتكار أنموذج إسلامي متناسق. وهذا بالذات ما يفسر تقاطع الخمينية والوهابية، مثلاً، عند البراغماتية السياسية التي تعني ممارسة خطاب مزدوج في ظل العجز عن بناء مجتمع إسلامي مثالي أخلاقياً وسياسياً».
يستحق العرب ـ كما يلفت الكاتب - أن يكون لهم وطن قومي كبير على غرار إيران وتركيا، ولاحقاً على منوال الاتحاد الأوروبي، وعلى الأكثر والأبعد يستحقون اتحاداً فدرالياً ديموقراطياً ولامركزياً برتبة قوة قارية أو دولة اتحادية كالولايات المتحدة. لكن محاولات التأبطر والتقوم العربي باءت بالفشل منذ نكبة فلسطين ونشوء وطن قومي يهودي، نشأت حوله نكبات عربية وإسلامية منذ 2001. فأصبح السؤال: ماذا تحقق عند العرب بفضل عروبة قبلية وأسلمة شقافية، مذهبية احترابية؟ وفوق ذلك لماذا لم تقم عندهم إمبراطورية عربية منشودة أو مؤجلة؟ يخلص خليل إلى «أن الإمبراطورية العربية مؤجلة، بدليل أن العالم العربي يهبط من القومي الجامع إلى المذهبي المفكِّك والقاتل، فيما العالم الإيراني والتركي يصعد من المذهبي إلى القومي، وفي ضوئه يحاول ورثة الإمبراطوريات غير العربية، التمدد داخل كيانات عربية، محركها تدمير الذات، بدلاً من بناء ذاتية عربية مميّزة».
الحاصل، أن العرب يمارسون تدميراً ذاتياً، واعياً ولاواعياً، وهذا سيؤدي لمزيدٍ من التشظي السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي. ولن ينهضوا إلاّ عبر بناء الأنظمة الديموقراطية، والتأسيس للمصالحة التاريخية المنتظَرة بين السنة والشيعة، وحفظ كرامة الإنسان العربي والتنمية الاقتصادية والخروج على التمذهب إلى رحاب العروبة الحضارية الجامعة للإثنيات والقوميات والأديان.
يستكمل خليل أحمد خليل ما بدأه في كتبه «سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر»، «لماذا يخاف العرب الحداثة: بحث في البدوقراطية» و «التراث العربي من التراب إلى ناطحات السحاب». لقد انشغل بهموم العرب وقضاياهم الكبرى، انطلاقاً من إيمانه بالمشروع الحضاري العربي الجامع. فهل يتّعظ العرب من الحروب الجارية على أراضيهم عبر يقظة علمية إنسانية توقظ الحصان العربي من كبوته؟