الثابت والمتحوّل في شخصية أردوغان.. بقلم: طارق عبود

الثابت والمتحوّل في شخصية أردوغان.. بقلم: طارق عبود

تحليل وآراء

الجمعة، ٩ سبتمبر ٢٠١٦

يشير ما يحصل في المنطقة اليوم، لا سيما في تركيا، إلى تبدّلات دراماتيكية متسارعة في السياسة الدولية والإقليمية. وما حصل فيها خلال الشهور القليلة الماضية يؤشّر إلى أنّ شيئًا بنيويًا قد تغيّر في السلوك السياسي، إذ راح المشهد ينقلب ويتبدّل في أسابيع قليلة. وهذا يدلّ على أن القيادة السياسية تمثّل، أحياناً كثيرة، ركنًا أساسيًا في أدوات تحليل النظم السياسية، بالنظر إلى الدور الشخصي المركزي الذي يقوم به الزعيم السياسي. ورجب طيب أردوغان قد يشكّل أنموذجًا يشفّ عن هذه الحقيقة.
لا شك في أن الرئيس التركي يمتلك كاريزما قيادية لافتة، وهو خطيب لا يُشقُّ له غبار، وأنّ دراسته في مسجد «إمام خطيب» قد صقلت شخصيته الخطابية، وتتلمذه على يدي أستاذه نجم الدين أربكان قد أفاده كثيرًا في العمل السياسي لاحقًا. لكن مواقف أردوغان اتسمت بانعطافات عنيفة، منذ مقاربته أحداث المنطقة في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد الفوضى التي اجتاحت المنطقة أو ما سُمِّي بـ «الربيع العربي».
ونحن إذ نقارب بالنقد شخصية من وزن الرئيس التركي ومركزه على رأس السلطة السياسية المنتخبة في تركيا، فلأنّ هذا البلد يتمتع بميزات ديموقراطية نفتقدها في البلاد العربية، ولأنه بلد يطمح أن يكون تحت عباءة الاتحاد الأوروبي.
يتحدث أردوغان عن طفولته في أحد الأحياء الفقيرة: «عندما أتأمّل سكان حي (قاسم باشا) في تلك الفترة كنت ألاحظ أنهم أصحاب مواقف ورجولة، لم يكونوا من الذين يقولون القول ثم يتراجعون عنه أو يغيّرونه فيما بعد، في تلك الفترة كانت ثقافة التعاون والتلاحم بين الجيران هي السائدة، كنا في زقاقنا نعيش وكأننا عائلة واحدة كبيرة». بماذا سيجيب أردوغان اليوم، إذا سأله أحد سكان حيه الفقير، ماذا بقي ممّا تعلمه ومن الطريقة التي عاش فيها أهل حيّه؟
غالبًا ما يستخدم السياسيون الطبقات الفقيرة جسرًا للوصول إلى السلطة، ويدافع الفقراء عن ابن بيئتهم، علّه يرفع عنهم بعض الظلم والإجحاف. ويتحصّن الزعيم بدوره خلف ذكرياته في تلك الأيام العجاف، كلما واجه معضلة ما. لكن اللافت أن الغالبية العظمى ممن وصلوا إلى مواقع السلطة، تخلّوا عن تاريخهم وأبناء جلدتهم، وارتموا في أحضان الطبقات الميسورة وممارساتها، وأصبحوا من المُغالين في الدفاع عن مصالحها، في سلوك مرضي تعويضيّ عما حُرموا منه. كان أردوغان لاعب كرة قدم، وثمة خلاف عميق حول تاريخه الكروي، فإعلام «العدالة والتنمية» يقول إنه وصل الى التشكيلة الأساسية في نادي «قاسم باشا» في اسطنبول، وهو من فرق الدرجة الأولى في تركيا، وإنه تلقى عرضًا من نادي «فينربخشة» المعروف، لكن والده لم يكن موافقًا على مساره الكروي، لاعتقاده بعدم جدوى هذه اللعبة بالنسبة إلى مستقبل ابنه الشاب. حتى أن بعض الإعلام أشار إلى اعتقاد متابعيه أنه سيكون خليفة الأسطورة الألماني فرانس بيكينباور في تركيا، على اعتبار أنه كان هدافًا كبيرًا ويتمتع بروح رياضية عالية، وغير ذلك من الصفات. لكن المؤرخ التركي سونير يالتشين يدحض هذه المزاعم التي تسوقها الآلة الإعلامية للحزب، ويقول إنّ أغلب ما كُتب عن أردوغان كان مضخّمًا، وأن مسيرته الكروية امتازت بالإخفاق، وأنه كان سيئ الخلق في الملعب، وكان نصيبه من كل مباراة إحدى البطاقتين الصفراء أو الحمراء.
يقول أردوغان عن لعبته المفضلة: «علمتني كرة القدم أشياء كثيرة منها: التفكير الجماعي والتعاون والعمل بروح الفريق»، ويؤكد: «إن استطعتم العمل بروح الفريق؛ عندها بإمكانكم الوصول إلى النجاح».
لم يترك سلوك أردوغان السياسي له من صاحب، واتسمت مسيرته بالتقلبات المثيرة للجدل، وبالتخلّي عن رفاقه على المستوى الداخلي للحزب، وما فعله مع عبدالله غول، ومع المنظّر لسياسة حزب «العدالة والتنمية»، صاحب نظرية «صفر مشاكل» أحمد داوود أوغلو وغيرهما دليل واضح. أما على الصعيد الخارجي، فاتسمت مواقفه بالانتهازية مع الدول القريبة والبعيدة.
قد يكون مفيدًا هنا استحضار توصيف ماكيافيللي عن «الأمير» الذي يحكم ويقود، وتصير إرادته قانونًا يضبط الآخرين، متصفًا بالمكر والدهاء وبالاعتماد على القوة والحيلة معًا في الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، جامعًا بذلك بين خصائص الأسد في البطش والثعلب في المناورة. لكنه في لحظة ما، كاد يفقد كل شيء في ليلة صيف حارة، ويدفع الثمن غاليًا.
يقول ستيفن آر كوفي عالم الاجتماع الأميركي «إنّ استعارة القوة تبني ضعفًا في المستعير، لأنها تعزز الاعتماد على العوامل الخارجية للقيام بالمهام. وتنتج استعارة القوة ضعفًا في العلاقات، لأن الخوف يحل محل التعاون، ويصبح الطرفان أكثر دفاعية وعشوائية... ومن أمثلة مصادر القوة المستعارة: التفوق في الحجم أو القوة البدنية او السلطة أو الموقع، ولكن المشكلة تحضر عندما يتغيّر مصدر القوة المستعارة أو يتلاشى». وهذا ما قد يكون حصل مع أردوغان، فهو كان قد استمدّ سلطته من الناس ومن شريحة كبيرة من الشعب التركي، فأصبح يتكئ على القوة والبطش، ويسجن على الشبهة، بعدما كان زعيمًا محبوبًا، سُجِن لقوله أبياتًا للشاعر التركي ضياء غوك ألب. لكن العداوات التي خلقها مع الأصدقاء والخصوم، والخطاب التعبوي الذي توسله في سبيل شد العصب حول خياراته، أفقده مساحة من التعاطف والتأييد، حتى لو أظهر عضلاته عبر استغلال الانقلاب الفاشل في تموز الماضي. قد يكون الرئيس أردوغان بحاجة إلى استذكار أيام السجن، وهو الذي قال «إن حياة السجن تعطيكم الفرصة لمحاسبة أنفسكم، وتجعلكم تتفكرون، ماذا كنتم قبل هذه الفترة؟ ماذا حلّ بكم وقتها؟ ماذا ستصبحون؟ بعدها تأتيكم لحظة تدركون فيها جيدًا أنكم لا شيء، وأنّ القوة لله وحده. عندما تكون عائلتكم وأطفالكم في الخارج، عندها تصبح مشاعركم أقوى، لذلك كان علماؤنا يصفون حياة السجن بالمدرسة اليوسفية، نسبة إلى سيدنا يوسف - عليه السلام - ولكن للأسف هذا المفهوم لا يعيه الجميع».
لم يثبت أردوغان على مواقف في غير قضية، ومثّلت الأزمة السورية أنموذجًا لتظهير سياسته، وما أسهم في ذلك هو المدى الزمني الممتد منذ آذار العام 2011.
مع أردوغان أصبحت المواقف السياسية المتبدّلة تمتاز بالخفة والمزاجية والنكد السياسي لدولة إقليمية معتبرة ووازنة، وإمبراطورية سابقة لها من التاريخ والتجربة العريقة والتأثير في سياسات المنطقة بصمات واضحة، وشوّهت سمعة الزعامة التركية، حتى أصبحت محل تندّر وشماتة على كل لسان وشفة.
تمخضت عن سلوك أردوغان نتيجتان: الأولى أنّ الأنموذج الطموح لـ «الإخوان المسلمين» في الحكم، بعد المظلومية التي عاشوها على مدى عقود طويلة، إذا ما أردنا أن نتخذ من «العدالة والتنمية» كأنموذج للحكم، لم يكن مشجّعًا، بغضّ النظر عن القفزة الاقتصادية النوعية قبل الحرب السورية. والثانية تمثلت بالتجربة السيئة والإخفاق الكبير الذي مني به الفرع المصري المؤسس لهذه الحالة في مدة حكمها للبلد الأكثر أهمية في الوطن العربي، ما يثبت أنّ التنظير للحكم شيء، وممارسة الحكم شيء آخر.
الثابت عند أردوغان هو الوصولية، بغض النظر عن كل المواقف الحادة التي يتخذها، ويتراجع عنها، بدءًا من منتدى دافوس 2009 وصولًا إلى ما نُميَ عن اللقاءات الأمنية مع الجانب السوري في بغداد، وما بينهما. والمتحوّل هو المواقف الملونة التي تخدم هدفه في البقاء على رأس الحكم في تركيا.