قمة العشرين صينية واقتصادية.. بقلم: جميل مطر

قمة العشرين صينية واقتصادية.. بقلم: جميل مطر

تحليل وآراء

الخميس، ١ سبتمبر ٢٠١٦

حلّ بالصين سكون غريب. سكون غير مألوف لمن يعرف عن الصين الكثير أو القليل. رحت أنقّب عن أسباب أكثر أو أقوى من مجرد اضطرابات اجتماعية أو عمليات تطهير سياسي أو حرب جديدة ضد فساد يُصرّ على أن لا يغادر أو يقهر. هذه التطورات ليست غريبة عن المجتمع الصيني المعروف منذ القدم بولعه بالأصوات الزاعقة والاحتفالات الصاخبة. كنت مقتنعاً في مرحلة معينة بأني لو كنت حاكماً على الصينيين لخشيت على نظام حكمي واستقرار بلدي، إذا عمّ السكون وهدأت الأصوات. أودّ أن أبالغ بعض الشيء فأجازف بالقول إن أغلب من سمعت أو قرأت عنهم من حكام الصين في تاريخها الممتدّ فكروا في إثارة بعض الفوضى أو المظاهرات والاضطرابات في كل مرة تجاوز الهدوء المدة المتوقعة وركن الناس والبيروقراطية وحكومات الأقاليم والمؤسسات عموماً إلى السكون.
سكون هذه المرة بعيد عن الغموض، وأبعد منه رد فعل الحكام. الصين ـ حكومة وبيروقراطيون ونقابات وجامعات ومراكز بحث ـ منشغلة بالاستعداد لانعقاد القمة العشرين. تابعت، أحياناً عن بعد وكثيراً عن قرب، معظم القمم السابقة، وأستطيع أن أقرر باطمئنان أنه لم يحدث أن بذلت دول مضيفة للقمة ما بذلته الصين خلال الشهور الماضية من جهود وأموال وتعبئة جماهيرية وما استعدت به من دراسات وأوراق عمل. شكلت الصين - على امتداد العام المنصرم - ورش عمل متعدّدة الأطراف وأقامت ندوات ومؤتمرات علمية ودعت لزيارتها علماء من مختلف الدول يعرضون ابتكاراتهم العلمية وحلولهم لمشكلات الاقتصاد والمجتمع في دولهم وفي العالم ككل.
حدّدت الصين، بالتشاور مع خبراء أجانب، عشرة أهداف للقمة التي تنعقد لأول مرة في دولة نامية. بمعنى آخر انتهى زمن تسليم قيادة العالم للأغنى والأقوى. أصبح من حق «أكبر دولة نامية في العالم وربما في التاريخ الحديث» عقد مؤتمر تحت قيادتها تحضره أغنى الدول وأقواها، تضع الدولة النامية جدول أعماله وتحدد أهدافه العشرة، وتختار عنوانين لعمل القمة، أولهما أجندة التنمية المستدامة 2030 وثانيهما التنمية طريق النمو. تريد الصين التأكيد مجدداً على أن النمو في حد ذاته ليس ولا يجب أن يكون الشغل الشاغل للبشرية، الشغل الشاغل يجب أن يكون التنمية، فالتنمية هي الهدف وهي الطريق في الوقت ذاته.
عناصر البيئة الحاضنة للتنمية
ينبع اهتمامي بهذه القمة تحديداً من اعتبارات لا تقع مباشرة تحت عناوين الاستعداد للقمة ووضع الترتيبات التي تضمن نجاحها. أتصوّر أن المسؤولين الصينيين ما كانوا يتطوّعون أو يقبلون استضافتها لو لم يكونوا هم أنفسهم تحت ضغط شديد من الوضع الدولي المحيط بالصين وبغيرها من الدول الصاعدة. أتفق مع رأي أعرب عنه أستاذ بـ «معهد الدراسات الصينية» في نيودلهي في شهر أيار من العام الماضي. جاء في هذا الرأي السليم أن العالم يعيش مرحلة تداخلت فيها أربعة عناصر تشكل في مجموعها وتمازجها البيئة التي نتحرك فيها وقد نبقى أسرى لها لمدة طويلة مقبلة. أما العناصر فهي بالترتيب؛ أولاً: أزمة اقتصادية عالمية نشبت في العام 2007 ولم تغادرنا تماماً، ولكنها الأزمة التي تركت الولايات المتحدة في وضع اقتصادي صعب، وبالتالي غير مناسب لطموحات الصين التجارية.
ثانياً: رخاوة سياسية واقتصادية تتصف بها معظم دول العالم وبخاصة الدول الكبرى، وأظن أني عبرت عن هذه الحالة في مقال سابق حين وصفت الدول الكبرى بضعف لم تكن تتصف به من قبل.
ثالث العناصر: هي أن «الدولة» في الوقت الراهن على الأقل لم تعد تحتكر وسائل العنف والحق في استخدامه. هناك في كل مكان تنتشر جماعات ومنظمات تمتلك وسائل عنف مثل تلك التي تمتلكها الدولة، وكانت تزعم لنفسها الحق في احتكارها. لم تعد الدولة ركن الأساس في هياكل النظام الدولي.
رابعاً: السرعة الهائلة التي تتجدّد بها التكنولوجيات الحديثة، هذه السرعة قد تمثل دافعاً للإسراع في التنمية ولكنها في الوقت نفسه قد تشكل عائق تنمية. فالتكلفة المرتفعة لعمليات التحول نحو استخدام هذه التكنولوجيات تعقد فرص التنمية السريعة وتثقل على كاهل برامج التعليم.
أضيف من جانبي عنصراً خامساً الى العناصر التي تتكون منها البيئة الحاضنة للتنمية المستدامة وحتى 2030، هو حال عدم الاستقرار وعمق التحوّلات الجيواستراتيجية التي تخضّ عالمنا وأقاليمنا ومجتمعاتنا خضاً شديداً. النظرة السريعة الى الواقع الراهن في الشـرق الأوسط يكشف عن حجم التحديات التي تواجه خطط التنمية في الإقليم في ظل بيئة يغلب عليها التوتر الشديد وعدم الاستقرار وتصورات غامضة أو متشائمة عن المستقبل.
أتوقف طويلاً عند هذا العنصر لاعتقادي أنه الأقوى حسماً عند الضرورة من أي عنصر آخر. نعلم أن ربع القرن الأخير شهد أهم وأعمق وأسرع عملية إعادة توزيع للثورة العالمية في تاريخ البشرية، وأن هذه العملية اكتسبت زخماً كبيراً في أعقاب أزمة 2007. نلاحظ مثلاً أنه خلال هذه الفترة القصيرة انتقلت الصين من اقتصاد يكاد لا يصل إلى ما نسبته ثمن الاقتصاد الأميركي إلى اقتصاد يكاد يساوي حجم الاقتصاد الأميركي بحساب القوة الشرائية. نلاحظ تحولاً آخر وإن أقل إثارة في الهند.
هو العنصر الأقوى حسماً عند اللزوم إذا وضعنا في الاعتبار، وبخاصة الاعتبار الصيني، مبلغ الخطر الذي يجسّده الاندفاع الروسي بقيادة فلاديمير بوتين لتعويض ما فاته وفات روسيا خلال سنوات الضياع في أواخر العهد السوفياتي وأوائل العهد البوتيني. قد يبدو للبعض هنا في الشرق الأوسط أن في الحديث عن خطورة التمدد الروسي الجديد مبالغة، وهو ليس كذلك على كل حال، وكذلك بالنسبة لدولة كبرى صاعدة كالصين، فالأمر لا شك يثير القلق وبالتالي يؤثر بقوة في عملية البناء وإثبات الحق في دور ومكان في النظام الدولي،فضلاً عن كونه يذكر الحكام الصينيين بنزاعات حدودية وخلافات قوية في أعقاب إعلان قيام الدولة الشيوعية الصينية في نهاية الأربعينيات وعلى طول الخمسينيات. هناك أيضاً الاحتمال المتزايد بأن تكون الدول الكبرى قرّرت جميعها أن تتفادى الحروب الثنائية المباشرة في سباقاتها نحو النفوذ واعادة رسم توازن جديد للقوة، ولذلك فالأمر الغالب هو أن تركز تنافسها وسباقاتها في أقاليم الهوامش، إن صح التعبير. لدينا نماذج مبهرة على هذه الحروب غير المباشرة في الشرق الأوسط وفي بحر الصين الجنوبي وأفغانستان وأوكرانيا. لا أريد أن أتنبّأ لأوكرانيا بمصير كمصير العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وليبيا، فكلها أزمات أو حروب وكالة تكاد تنطبق عليها صفة «الاستدامة» أو الأزمات المفتوحة، إما بسبب استحالة نشوب حروب ثنائية مباشرة بين القوى الكبرى لكونها بالفعل دولاً ضعيفة وفاقدة الثقة في قدراتها وإمكاناتها أو لأسباب أخرى تتعلق باختلال ميزان القوى الدولية وصعود القوى والتنظيمات المسلحة غير الخاضعة لقواعد النظام الدولي. يجــــب أن أضيف هنا الأثر المهم الذي نتج عن انحسار أنظمة الأمن الجماعي والدفاع المشترك. الصين، وإلى حد ما مصر، تشـعران أكثر من دول كثيرة بهذا الأثر على سياستهما الخــــارجية، وبخاصة على علاقاتهما الإقليمية. هنا أيضاً لا يفوتني أن أشير إلى السرعة الهائلة في تطور التكنولوجيات الحديثة التي تجعل الدول تتــهرّب من المواجهـــــات المسلحة المباشرة وتستعيض عنها بتصعيد أو المحافظة على الأزمات الإقليـــمية في مناطق الهوامش ذات البعد الاستراتيجي مثل كوريا الشمالية وافغانستان وسوريا والعراق.
أتصور أنه في ظل صعوبات وتحديات كهذه سوف تصر الدولة المضيفة على استبعاد أي محاولة لجر المؤتمر لمناقشة قضايا أو صراعات سياسية. الصين في حاجة ماسة ليعود النشاط التجاري الدولي إلى سابق عهده، وأن يسترد الاقتصاد الأميركي عافيته وأن تبقى الممرات المائية الدولية مفتوحة. الصين في ظروفها الراهنة لن تهتم كثيراً بأزمة في الشرق الأوسط أو بتحالفات تنشأ فيه ولا بحروبه الأهلية. تتمنى الصين، على الأقل خلال قمة العشرين، أن ينصبّ الاهتمام على الاقتصاد