حلب تصنع تاريخ المنطقة وتثبيت هويتها..

حلب تصنع تاريخ المنطقة وتثبيت هويتها..

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٤ أغسطس ٢٠١٦

عمر معربوني - بيروت برس -
هي معركة الهوية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وما يحصل في الميدان هو انعكاس للصراع المستمر منذ عقود طويلة، هذا الصراع الذي لم تنقطع وتيرته منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى واتخذ اشكالًا متعددة من الإنتداب الى الوصاية الى تثبيت انظمة حكم موالية للإستعمار، حتى وصل الى مرحلة توازن القوى على مستوى الأمة عندما تصدرت مصر ايام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قوى المقاومة، وتصدرت السعودية ولا تزال قوى الرجعية العربية.

الكثير من الإنتكاسات مرّت في تاريخنا ولا تزال، في حين أنّ المقاومة ايضًا لم تنقطع رغم التراجع المريع في العداء للكيان الصهيوني ومحاولات التطبيع معه.
وإن كان موضوع استعراض المراحل منذ اكثر من 100 عام يحتاج الى آلاف الكتب، فإنني سأكتفي باستعراض اهم المحطات التي شكلت بوابات عبور جديدة لمخطط السيطرة على المنطقة واعادة تقسيمها على اساس كيانات مذهبية وعرقية، خصوصًا أننا نشهد هذه الأيام محاولة جدية لترسيخ معالم اولى الكيانات في شمال سوريا، وأعني به كانتون "روج آفا" او غرب كردستان بحسب التسمية الكردية، وهو ما خصصنا له اكثر من موضوع، وسنكتفي هنا بالإشارة اليه كمدخل للولوج الى الموضوع الأساسي.

شكلّت ثورة الضباط الأحرارفي مصر اولى بذور المقاومة في وجه المخطط المعادي سنة 1952، بعد انشاء الكيان الصهيوني بأربع سنوات فقط، ليشكل ذلك صدمة لكل من بريطانيا وفرنسا رأس حربة هذا المخطط آنذاك والشريكين الأساسيين في اتفاقية سايكس - بيكو، خصوصًا أنّ قضية فلسطين كانت على رأس برنامج الثورة ما استدعى شن العدوان الثلاثي الذي انتهى بانتصار مصر بقيادة جمال عبد الناصر، الذي قاد المد الثوري العربي لفترة طويلة من الزمن تخللها الكثير من الإنتصارات والإخفاقات، لكنها رغم ذلك لا تزال تشكل حتى اللحظة عنوانًا لأي بعد ثوري في المواجهة تشكل اللاءات الثلاثة مضمونه.

سنة 1973 كان انور السادات يريد نصرًا ليفاوض وليس نصرًا ناجزًا لتحرير فلسطين، وهو ما حصل فعلًا حيث خرجت مصر من المواجهة سنة 1978 وتلتها الأردن عبر اتفاقية وادي عربة.
التحول الأخطر في مسيرة المقاومة كان ولا يزال عندما وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية اوسلو، وهي اتفاقية انقلبت على الميثاق الوطني الفلسطيني وعلى الثوابت الأساسية في الصراع مع العدو الصهيوني، وكنا امام ما اطلق عليه حينها القرار الفلسطيني المستقل الذي يتم استخدامه في اطلاق الشعارات المستقلة كلبنان اولًا على سبيل المثال لا الحصر، في محاولة واضحة لضرب روح الوحدة العربية التي تشكل العنوان الأهم لهوية الأمة.
ولا ننسى طبعًا توريط العراق بحرب طويلة مع ايران، واجتياح لبنان سنة 1982 الذي مهد لإتفاقية اوسلو مع الفلسطينيين.

اما لماذا نعتبر معركة حلب أساسًا لصناعة تاريخ المنطقة وتثبيت هويتها، فلأنّ هذه المعركة ترتبط بأبعاد تاريخية وجغرافية وسكانية، من يربحها سيكون له الباع الأطول في اعادة رسم معالم المنطقة برمتها وليس سوريا فقط.

المتابعون لسير المعارك في سوريا يمكنهم ملاحظة المسارات التي سارت فيها الهجمات وكيف تتوزع الجماعات المسلحة وعلى اي أسس، فلم يكن العامل المذهبي هو الأساس الذي نشأت عليه هذه الجماعات بل تعداه ليكون عرقيًا ومناطقيًا، حيث الولاء للمنطقة في بعدها الجغرافي او العرقي، وهو ما اريد فعلًا لجهة تعميم الفوضى الدائمة بعد انهيار الدولة السورية كما هو مخطط.

ولأنّ حلب تشكل احدى نقاط الإرتكاز الأساسية في دولتي السنّة، فإنّ السيطرة عليها من قبل الجماعات المسلحة كان هدفًا رئيسيًا إضافةً الى دمشق التي تُصنّف كعاصمة للدولة السنيّة الثانية.
وانا هنا انطلق من وجهة نظر المخطِط لتبيان الهدف، وما تركيز الهجمة على حلب برأيي إلّا مواكبة لتقدم الأكراد في الشريط الحدودي الشمالي لسوريا، حيث يرغب الأميركيون في تثبيت معالم أولى للتقسيم من خلال انشاء كانتون كردي وآخر سني يضم حلب واريافها الجنوبية والغربية مع ادلب واريافها.

وانطلاقًا من فهم دقيق لهذه الأهداف، تعمل القيادة السورية على خوض المعركة في كل سوريا وفي حلب بشكل خاص بما يتناسب مع الأولويات والإمكانيات وبعقل بارد يعرف كيف يتنقل في المعركة بين الدفاع الصلب أحيانًا والدفاع المرن أحيانًا اخرى، والإنتقال الى الهجوم عندما تسمح الظروف بذلك.

قد يفهم البعض هذا الكلام في بعد تبريري، إلّا أنها المعركة تفرض نفسها وايقاعها، ويجب ألّا يغيب عن بالنا أنّ محور المقاومة في حالة الدفاع الإستراتيجي، وإلّا لما تمت تسميته بمحور المقاومة، وهذا يعني أنّ المعركة مستمرة ويتم توفير كل ما يلزم لها من امكانيات لكسبها والقضاء على المخطط المعادي ودفنه.

إذًا نحن في معركة الدفاع عن الهوية، سوريا التي نريد وسوريا التي يريدون، لهذا ستكون نتائج معركة حلب ذات تأثير على كل سوريا والمنطقة كلها دون الإلتفات الى الصراع الميداني الموضعي على أهميته، وهو الأمر المرتبط بالتفاصيل المتبدلة، مع التأكيد أنّ مخطط تفتيت المنطقة رغم عدم هزيمته إلّا انه يعيش مرحلة صعبة لم يستطع المخططون تحقيق اهدافه حتى اللحظة، وهو ما يحتاج الكثير من الصبر والصمود على كل المستويات.