انتقال أردوغان وبوتين من العداوة إلى حسابات المصالح

انتقال أردوغان وبوتين من العداوة إلى حسابات المصالح

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٧ أغسطس ٢٠١٦

في خريف العام 2015 أُعلنت القطيعة بين تركيا وروسيا، وفُرضت العقوبات، وعلت التهديدات، وأصبحت الدولتان خصمين شرسين يكادان يتجنبان المواجهة العسكرية. في صيف العام 2016، أعيدت العلاقات ووُصل ما انقطع واحتُفل بالصداقة المتجددة.
في خريف العام 2015 كان الرئيس رجب طيب أردوغان يتساءل «ماذا تفعل روسيا في سوريا، ما شأنها هناك؟» و «لماذا يدعم بوتين رئيساً يقتل شعبه ويهجّره»؟ وكان الرئيس فلاديمير بوتين يُعلن للعالم «أن أردوغان يدعم المنظمات الإرهابية في سوريا لأنها تماثله في التفكير والانتماء... وأنه شخصياً وأفراد عائلته يستفيدون من سرقة النفط السوري وتهريبه إلى تركيا بواسطة الإرهابيين». بعد سبعة أشهر فقط وفي روسيا، يصرح أردوغان أمام «صديقه العزيز بوتين» أن لموسكو دوراً رئيسياً في تسوية الأزمة السورية، في الوقت الذي كان فيه بوتين يولم على شرف أردوغان بحرارة وفي أطباق طبعت عليها صورة الرئيسين الصديقين يتصافحان.
لا ثابت في السياسة. والعلاقات الدولية لا تحكمها الأيديولوجيات (فقط)، خاصة بين دولتين بحجم روسيا وتركيا، بتاريخهما المعقّد وبتشابك مصالحهما ومناطق نفوذهما في البحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. ومع هذا كلّه، لم يجتمع الزعيمان لينشئا تحالفاً جديداً. فلا أردوغان يريد الانسحاب من «الناتو»، ولا بوتين يريد من تركيا الانضمام إلى «منظمة شانغهاي للتعاون».
كل ما في الأمر أن كلا الرئيسين يجيدان لعبة شد الحبال وجذبها مع حلفائهما قبل خصومهما: فأردوغان يريد أن يثبت للغرب أنه لم يحرق جسوره الشمالية مع روسيا، وأنه لن يكون رهينة تحالف غير موثوق تخلى عنه في وقت المحنة. ليست تركيا جاهزة للطلاق مع «الناتو» بعد، ولكنها تريد أن تستخدم قوتها الجيوسياسية لمصلحتها وتلعب دوراً متوازناً بين أوروبا وروسيا. وبوتين يريد أن يثَبّت موقع روسيا الوازن في المنطقة الذي لا يمكن تجاوزه ولا إلغاؤه بعقوبات اقتصادية أو بأحلاف باتت المصالح المتضاربة فيها تهز أساساتها. ربما يرغب بوتين في إضعاف «الناتو» وفرط عقده، ولعله يرى في تركيا الحلقة الأضعف فيه، لكنه لن يغامر لأجل هذا الآن بأوراق أكثر فعالية وضمانة.
وهكذا تلاقت مصالح الدولتين مرة جديدة، فبدأتا قبل القمة وقبل محاولة الانقلاب في تركيا عملية إصلاح علاقتهما. فأردوغان، قبل الانقلاب الفاشل في الداخل، كان قد بدأ يشعر بانقلاب خارجي مزدوج عليه: أميركي في الملف السوري، تحديداً في الملف الكردي ودعم واشنطن منظمة PYD الكردية السورية (حزب الاتحاد الديموقراطي)، وفي ملف مصير بشار الأسد الذي سلّمته واشنطن لموسكو؛ وأوروبي في موضوع اللاجئين السوريين وملف العضوية الأوروبية. فحزم أمره، قبل أن تسبقه الأحداث، أعاد علاقة تركيا بإسرائيل وبدأ بتحسين علاقته بروسيا.
وبوتين، من جهته، رأى أن عقابه لتركيا بدا سيفاً يقطع باتجاهين. فبمقاطعته لتركيا فقد ورقة قوة كان يهدد بها الأوروبيين، ويدخلها في صلب خططه للطاقة والغاز وفي لعبة عض الأصابع مع أوروبا والولايات المتحدة.
فكانت رسالة الاعتذار التي توّجت مفاوضات مكوكية سارت خلف الأضواء وتضافرت فيها جهود رجال أعمال وعسكر وأمن وديبلوماسيين من الطرفين. ثم جاء حدث مهم شكل مقدمة جيدة للقاء الرئيسين. فخلال قمة الناتو في 8-9 تموز في وارسو، أحبطت تركيا حماسة الولايات المتحدة التي دفعت (بواسطة رومانيا) إلى وجود دائم لقوات الحلف الأطلسي في البحر الأسود. فهمت أنقرة أن خطط واشنطن تهدف إلى تحدّي الوجود الروسي التاريخي في تلك المياه، وتطويق الأسطول البحري الروسي في سيفاستوبول، وتهديد شبه جزيرة القرم؛ كل هذا على حساب تهديد علاقات تركيا بجارتها روسيا إرضاءً لبعض دول «الناتو» وبإغفال تام لمصالح تركيا.
فاستحضرت أنقرة اتفاقية المضائق (مونترو ـ 1936) التي تمنع أيّ وجود بحري دائم في المنطقة لغير دول البحر الأسود، وتعطي تركيا السيطرة على مضائق البوسفور والدردنيل. وقد دعمتها بلغاريا بموقفها هذا، ذلك أن صوفيا تبني علاقات جيدة مع موسكو. وهكذا، أفهمت أنقرة الجميع ـ بمن فيهم واشنطن وموسكو ـ أنه من دون تعاون تركيا، تحبط كل خطط الناتو لتطويق روسيا في البحر الأسود (أو الأبيض المتوسط).
موسكو التي تجيد التقاط الإشارات وتحليلها أدركت أهمية هذا التطور الكبير. ولم يفوّت الرئيس بوتين «فرصة الانقلاب الفاشل» فكان ثاني رئيس دولة يتصل بأردوغان (بعد الرئيس الكازاخستاني) ليعرب له عن إدانته للانقلاب وعن وقوف موسكو إلى جانب تركيا وحكومتها. ووسائل الإعلام الروسية كانت تنقل من دون تورية وجهة النظر المؤيدة لأردوغان، حتى بدا وكأن روسيا هي التي تراهن على بقاء أردوغان في السلطة في الوقت الذي أطبق الصمت على أفواه حلفائه في «الناتو» وأغشاهم الارتباك.
وهكذا، ففي غضون سبعة أشهر عادت دورة العلاقات التاريخية لتصحح نفسها، وتعيد وضع المشروعين التركي والروسي في مسارهما الطبيعي، فلا يتلاحمان، ولا يتصادمان، وإن كانا يتقاطعان أحياناً ويهدد أحدهما الآخر أحياناً أخرى. إنّ كلاً من بوتين وأردوغان يفهم أن المشروعين التركي والروسي عبر التاريخ، مشروعان مستقلان قائمان بذاتيهما، ليس بالضرورة أن يتكاملا ولا أن يتواجها برغم نقاط التماس بينهما. فالأخطار المحدقة بالمشروعين لا تتأتى من أحدهما ضد الآخر، والقيادتان الحاذقتان تدركان هذا خير إدراك. الخطر الكبير، والذي يكاد أن يكون شبه الوحيد، على كل من المشروعين يأتي من الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) الخصم الحقيقي المشترك للدولتين الفتيّتين. خطر هذا الغرب يأتي من خوفه من استقلال موسكو وأنقرة باستراتيجيتهما وتحولهما إلى مركزي قرار خطيرين بكل ما تملكانه من قوة كامنة: روسيا بقوة «الطاقة» الاستراتيجية وترسانة السلاح العظيمة، وتركيا بقوتها التاريخية والجيوسياسية المدعومة باقتصاد شاب طموح.
بعد هذا لا يعود مهماً على ماذا اتفق الزعيمان في القمة الأخيرة وعلى ماذا اختلفا. ويصبح تفصيلاً حتى الاتفاق حول سوريا وخطوط نقل الطاقة وتنشيط العلاقات التجارية. لقد اتفق الزعيمان على إعادة العمل بخط «السيل التركي» TurkStream لنقل الغاز الطبيعي من روسيا مباشرة إلى تركيا من دون المرور بدولة ثالثة، وعلى تفعيل بناء محطة إنتاج الطاقة النووية في Akkuyu في جنوب تركيا، وإلغاء القيود على سفر السياح الروس والرحلات المنظمة لهم إلى تركيا، ورفع حواجز التصدير والاستيراد التي وضعها البلدان بعد حادثة إسقاط الطائرة.
أما في الوضع السوري، وهو اليوم عقدة علاقاتهما، ففي إطار مشروعهما المستقلّ لن تتخلى أي من الدولتين عن خططها هناك. غير أن اتفاقهما في سان بطرسبورغ سيعزز النقاط المتفق حولها من مثل وحدة الأراضي السورية، والحل السلمي، ومتابعة مسارات جنيف. فقد رأت القيادتان أن طريقة تجزئة الخلافات وفصلها بعضها عن بعض هي الأنسب في سياق تعزيز علاقاتهما. وقد سبق أن جرّبا هذه الطريقة بنجاح منذ بداية الأزمة السورية. كما خبرتها تركيا وبنجاح أيضاً مع إيران.
وقد شُكّلت لجنة أمنية ـ ديبلوماسية مشتركة تتابع اجتماعاتها في روسيا للبحث تفصيلاً في الملف السوري. وتفيد المعلومات الواردة عن وضع إطار عمل يتناول بالتفصيل الجبهة الشمالية، ومنظمة PYD الكردية وميليشياتها YPG، والميليشيات المدعومة من تركيا (التركمانية وأحرار الشام)، ووضع جبهة فتح الشام (وريثة جبهة النصرة)، ووضع المنطقة الممتدة بين جرابلس وأعزاز... إلخ.
لن تنتقل تركيا إلى الضفة المقابلة، ولكنها ستعزّز تموضعها بما يحرّرها من بعض ضغوط واشنطن وحلفها غير المقدس معها. ولعلّ ما أفادتنا به مصادر ديبلوماسية من اجتماعات أمنية عسكرية تعقد في أنقرة بين مسؤولين من الأجهزة الأمنية التركية الممسكة بملف الجبهة الشمالية السورية، وقيادات فصائل المعارضة السورية الموجودة في تلك الجبهة، لا سيما في حلب، دليل على عدم انسحاب تركيا من الشأن السوري ومواصلتها تثبيت نفسها رقماً قوياً في معادلة الحرب الدائرة هناك، برغم تفاهماتها الأخيرة مع موسكو.
يثبت التاريخ أن ما بين روسيا وتركيا أعقد بكثير من تفصيل بسيط كإسقاط طائرة أو عقوبات متبادلة أو قطيعة لم تدم أكثر من سبعة أشهر. حتى الحرب السورية ستكون محطة من محطات تذبذب علاقاتهما وتبدّلها في التاريخ. وستبقى مصالحهما المتداخلة هي فقط ما يحدد متانة علاقتهما وكيفية مسيرها، لا السجاد الأحمر ولا عبارات الصداقة المبالغ فيها ولا أطباق الطعام المطبوعة عليها صورة السلطان والقيصر.