الانقلاب «الإخواني» المضاد.. بقلم: عبد الله زغيب

الانقلاب «الإخواني» المضاد.. بقلم: عبد الله زغيب

تحليل وآراء

الجمعة، ١٢ أغسطس ٢٠١٦

بدت تركيا في مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل أكثر قرباً من تحقيق «استدارة» تاريخية وعلى مستويات متعددة من أي وقت آخر، سواء في التوازنات الداخلية المتحكمة بآليات الحكم و «وسائل إنتاج» النخب، أو في المنظومة الخارجية التي انخرطت فيها أنقرة منذ عشرينيات القرن الماضي، وتحولها من دولة «مهزومة» في نتاج مباشر للحرب العالمية الأولى إلى دولة صاعدة وقابلة للاستمرار، ضمن خريطة جيوسياسية اصطفاها الغرب بدقة متناهية. حينها قامت تركيا على قاعدة «سلخ» المكونات غير التركية مع رقعها الجغرافية الموروثة عن السلطنة العثمانية، وفقا لبنود «معاهدة سيفر» 1920. هكذا عرف الكيان الوليد تجربة «التحول» القسري الأولى، مع ما حملته المرحلة من تبدل قياسي في التكوين الأيديولوجي ومن ثم في البنيان السياسي الأساسي المحرك لمنظومة المصالح «القومية»، إضافة إلى ما حملته الأخيرة من انتقال من مرحلة صراع «الأعراق» داخل الجسد «العثماني» الواحد إلى مشروع الدولة «البانطورانية» المنفتحة على الغرب «المنتصر»، والمنسلخة عن الشرق «المشتت». اليوم يتخذ التحول اتجاهات أكثر راديكالية. اذ قضى التبدل الأول إبان مقدمات صناعة الدولة «الأتاتوركيّة» بالانتقال من مرحلة الكيان العقائدي إلى دولة تقوم على حزمة مبادئ تختلط فيها الاتجاهات البراغماتية المراعية للتموضع الاستراتيجي الجديد. هكذا، أصبح «الإسلام السياسي» المطاردَ الدائم في تركيا أتاتورك، والهدف الأساسي للجهاز الأمني العتيق المرافق للدولة الحديثة منذ نشأتها. إذ نجح عسكر «تركيا الحديثة»، إلى حد بعيد، في الحفاظ على الجهازين الأمني والعسكري في منطقة عازلة تقي البعدين من تبدلات وانقلابات الساحة السياسية طوال القرن الماضي، وبما يضمن أيضاً التقليم الدائم لأظافر الاتجاهات الإسلامية السياسية الصاعدة مهما كانت الأثمان. كل ذلك جرى بتنسيق شبه كامل وبمقبولية تامة من الجسم الأطلسي الأساسي الراعي لعسكر الدولة التركية.
وجه تركيا الجديد، أو وجهها قيد الصناعة، ظهر جلياً خلال التجمع الحاشد المرعي من المؤسسة الحاكمة نهاية الأسبوع الماضي في ساحة «يني قابي» باسطنبول، حيث جمع الرئيس رجب طيب أردوغان غالبية العناصر القوية المكونة للنخبة الحاكمة مع الجهاز المعارض لها بشكل أو بآخر على منصة واحدة. وهكذا اجتمع الرئيس التركي ورئيس وزرائه بن علي يلدريم ورئيس البرلمان إسماعيل قهرمان، إضافة لزعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض كمال قليجدار أوغلو وزعيم حزب «الحركة القومية» المعارض دولت باهجة لي، مع ضيفين استثنائيين هما رئيس الأركان خلوصي آكار ورئيس وزراء جمهورية شمال قبرص التركية حسين أوزغور غون. كل ذلك لإعلان «البيان رقم واحد»، المعني بتأكيد فشل الانقلاب وانطلاق «انقلاب» آخر يحمل أبعادًا سياسية إنما بخلفيات أكثر تعقيداً، تقوم على أساس تغيير الدولة شكلاً ومضمونا،ً وثقافة قبل أي شيء آخر. وعلى المنوال هذا جاءت «حزم» الخطابات القوية في ذلك اليوم، لتجتمع بغالبيتها على إعلان تركيا دولة «إسلامية» بالقوة، بمعزل عن تأكيد علمانيتها بالفعل. إذ تقوم «الأسلمة» هذه على مبدأ تعويم المشروع «الإخواني» على سطح مياه «المستنقع الانقلابي» الفاشل وامتداداته.
حَرصَ جمعُ النخب في ذلك اليوم على استرضاء السلطان الغاضب والمهتز رجب طيب أردوغان، بما يكفل الانقلاب الكامل على موروثات الدولة التركية، والأسس التي بدت إلى الأمس القريب غير خاضعة لمزاج النخبة الحاكمة، والتي شكلت على الدوام «الخلفية العقائدية» العميقة للدولة. فكان بيان «الانقلاب الأول» إعلانا لقيام «الجمهورية الإسلامية التركية» كرد مباشر على البند الأساسي في إعلان الانقلاب الفاشل، والذي تحدث عن تغيير عقائدي ينفذه أردوغان في تركيا. هكذا اختار الأخير لهذا الإعلان أن يكون متنوعاً وبعدد غير بسيط من ممثلي الشعب في السلطة والمعارضة، مضاف إليهم رأس هرم «الأشيلون» التركي الممثل برئيس الأركان خلوصي آكار، الذي بدا إماماً لخطبة جمعة أكثر من كونه «زعيماً» للجهاز الإداري في المؤسسة العسكرية «العلمانية». فقد طغى على كلامه البعد الديني، اذ وصف الجيش التركي بـ «الجيش المحمدي» الذي يسير على رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الاتجاه ذاته الذي ذهب فيه خطاب زعيم حزب «الحركة القومية» دولت باهجه لي، الذي شدد على أن من لا يحترم القرآن الكريم لا ينتمي لتركيا، فضلاً عن تغنيه بالإرث العثماني والفتوحات التي قامت بها «دولة الخلافة».
لا تفترض الانعطافة العقائدية في الجهاز التركي الحاكم انعطافة أخرى على المستوى ذاته من الحدة في التموضع الاستراتيجي للدولة الأطلسية. إذ تثبت التجربة التاريخية مع الأجهزة السياسية «الإخوانية» أن الأخيرة تميل بشكل دائم إلى اعتماد سياسة براغماتية، خاصة عندما ترتبط المسائل بالعلاقة مع الغرب، مضاف إلى الأمر العلاقة «الحسنة» بين «الإخوان المسلمين» ودول كبريطانيا مثلاً. لذلك لا يمكن الركون على الإطلاق إلى تقديرات تذهب باتجاه تحول تركيا الى دولة مشاكسة أو «مارقة» أو حتى «شريرة» وفقا لسلة المصطلحات الديبلوماسية الغربية عند التعامل مع كيانات الشرق. وهذا لا يعني أيضاً أن الشراسة في مواجهة خصوم الداخل قد تنعكس شراسة مقابلة في صناعة خصوم خارجيين أو في التعاطي مع القائمين منهم. وعلى هذا المنوال جاء الانفتاح «الاخواني» المصري في زمن الرئيس السابق محمد مرسي على إسرائيل، بمعزل عن عمل جهازه على استكمال السيطرة السلسة على مقدرات الدولة المصرية، ضمن أجندة واجهت خصوم الداخل والتيارات المعارضة لـ «الاخوان»، باعتماد نموذج مصري عملي وتنفيذي مماثل لقانون «اجتثاث البعث» في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي.
«إخوان» تركيا لن يكونوا منتجاً شديد الاختلاف عن امتداداتهم أو أذرعهم الخارجية، العربية منها تحديداً. لذلك لا يمكن الخروج بتقدير منطقي يقول بتحول تركيا إلى خصم للغرب، وبالتالي تحلل روابطها التاريخية بـ «حلف شمال الاطلسي». وما يحصل الآن لا يتخطى كونه اعتراضاً وممانعة على ما تراه أنقرة «تقاعساً» أميركيا في دعم سلطتها الحاكمة، ورفدها بعناصر التقوية المطلوبة في ظل أزمة ما بعد المحاولة الانقلابية، من قبيل تسليم الداعية فتح الله غولن وما يعنيه ذلك من استكمال أردوغان عملية السيطرة على الكتلة الشعبية والثقافية «الإسلامية» في الداخل وتوحيدها في بوتقة «إخوانية» صلبة يمكن لها أن تنتج أدوات قادرة على تعزيز «ديكتاتورية الجماهير» التي أبدع أردوغان في امتطاء صهوتها واستخدامها في ضرب خصوم الداخل، وفي مقدمهم العناصر «الأتاتوركية» في الجسم العسكري.
مهما بدت زيارة أردوغان الى روسيا ولقاؤه بوتين فاقعة وملفتة للأنظار، ومهما فتحت من أبواب على إمكانية حصول تبدل في الاتجاه العام للدولة التركية، إلا أن محددات السياسة الخارجية لـ «الاخوان المسلمين» في تركيا، مضافا إليها مجمل المصالح المشتركة والتاريخية مع الغرب، تضمن سياقاً مختلفاً عن الصورة الجامعة للزعيمين الشرقيين. فالهوية الخارجية للسياسة التركية تبدو على «حقيقتها» أكثر في الانفتاح أو إعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتخطي أردوغان لـ «سرديّة» دعم المحاصرين في غزة، حيث أن «أسلمة» الدولة بالمفهوم «الإخواني» لا تفترض سلة مصاحبة من الخلفيات المرتبطة بالعقيدة، ولا تفترض مد الجسور نحو اتجاهات «راديكاليّة» إسلامية أخرى تنشط ضمن محددات واضحة، كنهائية تحرير فلسطين كاملة، والعمل أيضاً على تفتيت عناصر القوة الغربية في المنطقة. إذ من الممكن أن تتجه «العضلة» الإخوانية التركية نحو عملية إعادة هيكلة للعلاقات والتوازنات في منطقة الشرق الاوسط، تقوم على محاولة «تقليم» أظافر المملكة العربية السعودية ومعها دولة الإمارات، لدورهما في مواجهة المشروع «الاخواني» عموماً، أو ما تسربه وسائل الإعلام التركية عن أياد عربية خفية دعمت الانقلابيين. وهكذا فإن انعكاسات الانقلاب المضاد في تركيا قد ترتبط بالصراعات العربية-التركية أو الإسلامية-الإسلامية، أكثر من كونها أحداثا تمهد لتموضعات «قياسية» جديدة، تحدث انقلاباً جذرياً في تحالفات ما بعد «الربيع العربي».