السعودية لم تكن يوماً عدواً لإسرائيل.. بقلم: عبد الله زغيب

السعودية لم تكن يوماً عدواً لإسرائيل.. بقلم: عبد الله زغيب

تحليل وآراء

الجمعة، ٥ أغسطس ٢٠١٦

ينطلق التعقيد في قراءة «الاتجاه» السعودي نحو القدس المحتلة، من الطبيعة الملتبسة والمرتبكة والضعيفة للنخب الحاكمة حالياً في المنطقة العربية المحيطة بفلسطين المحتلة. فورثة الأنظمة «التاريخية» مضافاً إليهم مجمل «الوعي» العربي الجمعي الجديد، الخارج من رحم فوضى «الربيع»، شكلوا مجتمعين نواة قوية لإطلاق عملية كيّ وعي ذهبت برواية الصراع العربي الإسرائيلي بعيداً عن مجرياتها وحقائقها وتموضعاتها، فبات من الطبيعي صدور مواقف متراجعة عن الحماسة القوميّة أو الإسلامية أو أي خلفية عقائدية أخرى، ساهمت في تشكيل فصيل أو تنظيم أو نظام أو حتى فكرة تعادي إسرائيل، وتتمسك كذلك بسلّة الحقوق العربية وفي مقدّمها تحرير فلسطين التاريخية بشكل كامل. لكن المخزي أن المتراجعين بغالبهم لم يكن لهم أي إسهام ملموس في المعركة التي يجاهرون بالانسحاب منها، أو من الصراع الذي يدّعون اكتواءهم بناره، بكل بساطة لأننا اليوم نعيش في «عصر الورثة»، وتلك رواية أخرى غالباً ما تضيع فيها تركة وإسهامات «السابقين».
تذهب الجلبة المصاحبة لقضية التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي بعيداً عن السياق شبه الطبيعي للأمر. فالجدل القائم حالياً وعلى مستويات متعددة يتمحور حول المسؤولية النهائية للرياض عن حراك شخصيات سعودية رسمية سابقة وأميرية قائمة في اتجاه «إسرائيل». وكأن المسألة تحوّلت بفعل التمييع المقصود أو العفوي إلى مجرد أزمة علاقات عامة، قوامها لقاءات ومؤتمرات وزيارة أو زيارات «غير مسؤولة» من مواطنين سعوديين إلى «بلد» معادٍ للمملكة، أو غير صديق بالحد الأدنى. بيد أن الواقع يشي بمعطيات شديدة التعقيد والاختلاف في مقابل التبسيط القائم، تقوم على مجموعة متكاملة من العناصر التاريخية والبراغماتية، التي تشكل مجتمعة السردية الأقرب للواقع، وكذلك تظهر طبيعة الميول الأساسيّة للنظام السعودي الحاكم، وقراءته الخاصة لأبعاد التموضع الاستراتيجي الخاص به بعيداً عن سياقات مختلفة أخرى، شاء بعض المنخرطين في صراعات دول الطوق إدخال المملكة فيها «عنوة».
المملكة العربية السعودية المسلمة، كما سمّاها الملك الراحل عبد الله بن عبدالعزيز في خلافه الشهير مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في قمة الدوحة العام 2009، المملكة هذه وببساطة لم تكن يوماً عدواً لإسرائيل، لا في الأدبيات السعودية الداخلية أو المتعلقة بخطابتها الديبلوماسية، ولا حتى في الأدبيات الإسرائيلية التاريخية منذ نكبة فلسطين. فالانخراط السعودي في المنطقة كان وما زال ينشط باتجاه آخر مختلف تماماً، خاصة أن الرياض ومنذ بدايات رحلتها مع آل سعود، كان لها سياق خاص يقوم على سلة ارتباطات ومصالح اختلفت دوماً عن ارتباطات ومصالح دول الطوق إبان صراعهم مع «إسرائيل» وعلى مراحل متعددة. ومن الأمثلة التاريخية على الموضوع انشغال الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود بالحرب مع الأدارسة في عسير وجيزان والحديدة التابعة للإمارة الإدريسية، ومع قوات الإمام يحيى حميد الدين في نجران، والتي امتدت لنحو عقد كامل من الزمن وعلى مراحل متقطعة. وهي السنوات الحاسمة في الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة بين عامي 1924 و1934.
السعودية اختارت منذ نجاح الملك عبدالعزيز في تمتين أسس الاستقرار فيها، عقب سلسلة طويلة من الحروب والغزوات، أن تكون دولة أطلسية «بالقوة»، ولفترة غير محددة وغير مشروطة بالتحول إلى دولة أطلسية «بالفعل». كذا بدت تركيبة الاستقرار الخاصة بالعائلة الحاكمة، قوامها الانخراط في قضايا الشرق الأوسط من زاوية الرؤية «الاستعمارية»، وفي منظومة استراتيجية متكاملة شكلت فيها الرياض العصب الأساس ونقطة الارتكاز الاستراتيجي لمخرجات المشروع الأميركي في منطقة الخليج ومحيطها القريب. وعلى هذا المنوال يمكن تفسير سلة الصداقات والعداوات الخاصة بالمملكة، تحديداً مع الدول العربية الأساسيّة، حيث عملت طوال العقود الماضية على شيطنة أعداء الولايات المتحدة في المنطقة العربية، وكذلك على شيطنة أعداء «إسرائيل». وبجردة بسيطة للحساب التاريخي، نجد تموضعاً شبه ثابت للرياض خاصمت فيه الأنظمة العسكرية الحاكمة في مصر وسوريا والعراق.
شكّلت الألفية الجديدة مدخلاً واضحاً لقراءة طبيعة الدور السعودي في المنطقة وأزماتها. فبعد انتهائها من الإسهام في تهيئة عملية إنتاج الفوضى الأميركية «الخلاقة»، بادرت إلى مد اليد علانية إلى إسرائيل في قمة بيروت. وفي السياق ذاته خلقت أدوات ضغط هائلة لإعادة إنتاج سردية عربية مختلفة للصراع مع الاحتلال. فكانت السباقة في الاستهداف الأخلاقي لفصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية ووصف نشاطاتهم بالمغامرة. وكانت السباقة أيضاً والمموّل الرئيسي لصناعة جهاز إعلامي متكامل وعملاق، يقوم على مبدأ الترويج للمذهبية وإنتاج «وعي» عربي جديد، ينقلب فيه التموضع من حرب إلى أخرى مختلفة تماماً، وينتقل فيه الصراع من خنادق المقاومة والاحتلال إلى خطوط تماس الشيعة والسنة والأكراد وألوان الطيف المشرقي كافة، حيث بدت من أكبر الكيانات المغامرة والمقامرة بمستقبلها ومستقبل «الأمة» على حد سواء، بما يضمن في نهاية المطاف تهيئة الظروف الموضوعية لإنجاح الرؤية الأميركية القائمة على إعادة هيكلة شاملة للجغرافيا السياسية العربية.
المختلف اليوم يكمن في انتقال السعودية من العمل فقط، إلى العمل والكلام. فالمملكة تستشعر أن الوقت قد حان لإنتاج خطابة سياسية واضحة الأفق، وتتصل مباشرة بطبيعة ودور الرياض في محيطها، ويقوم على أساس الانقسام العمودي القائم في المنطقة. وتصاحب الانتقال هذا حاجة سعودية لإنتاج تحالفات قوية تضمن استبدالاً ناجحاً للقبة الحديدية الغربية الممنوحة للمملكة منذ قيامها، بقبة أخرى أكثر تعددية إنما ينقصها الوزن الأميركي «التاريخي». هكذا اتجهت المملكة نحو «إسرائيل» طالما أن الحرب بالوساطة التي تخوضها مع إيران، تنفتح اليوم على احتمالات متعددة، خاصة أن اللهيب وصل إلى حدود السعودية بل إلى ما بعد الحدود، في ظل فشلها العسكري في حربها مع اليمن، وكذلك فشلها السياسي في إدارة الأزمة البحرينية وانفتاح الوضع هناك على احتمالات «فوضوية» متعددة، تميل إلى التحول لظاهرة متنقلة في البيئات الشبيهة بالبحرين خليجياً كالمنطقة الشرقية السعودية والكويت إجمالاً.
تبدو السعودية إلى حد بعيد كعضو منتمٍ إلى نادٍ عقائدي سري لا يخرج المرء منه إلا ميتاً. لذا آثرت المملكة الذهاب الى نهاية المطاف، مهما بدت النهاية هذه «دموية» في سياقها وأسلوبها وأدواتها. فالعودة للوراء بالمنظور السعودي غير ممكنة وغير متاحة، ولا مجال اليوم سوى للانخراط أكثر فأكثر. هكذا جاءت الخطوات التصعيدية تجاه إيران من خلال رعاية جماعات معارضة للنظام الإسلامي في طهران وبشكل علني. وهكذا يفسر الضغط الدائم باتجاه الخروج بموقف أميركي قوي يمكن أن يؤسس لتدخل عسكري أطلسي في سوريا. فالمملكة تخشى استقرار خصومها اليوم أكثر من أي وقت آخر. لذا تعمل أيضاً وبشكل دؤوب على شيطنة الأجهزة المشاركة في الحرب «الكونية» على تنظيم «الدولة» في العراق وسوريا، وكأنها تنظر الى ما بعد الحروب هذه، وعودة بلدان «الفوضى» الى استقرار نوعي في أحضان الإيرانيين والروس وما يعنيه هذا من انفتاح على سلة متكاملة من جردات الحساب، وفي غياب متوقع للأميركيين عن المنطقة في السنوات الخمس المقبلة.