قيامةٌ في مرآة ورغبةٌ في أفقٍ يَجيء.. بقلم: نجاح إبراهيم

قيامةٌ في مرآة ورغبةٌ في أفقٍ يَجيء.. بقلم: نجاح إبراهيم

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣ أغسطس ٢٠١٦

تتكئُ على عطرٍ، فتُفترشُ أرائك الياسمين.
فمن تحملُ بين راحتيها هذا العبق الشاميّ، لا تستطيع أن تقوم بثورتها التي تخطط لها منذ أول زبد آنسَ البحر!
فما القيامة في عرفها، إلا وضوء أمام مرآة؟ وما الصلاة سوى غُصص ووجع؟
وما الأسئلة التي تحملها إلاّ حقائب متعبة على رصيف ذاكرة!
الشاعرة "ميساء زيدان" يفيضُ داخلها بقهر يشبه نهراً دائم الجريان، لهذا كتبت الشعر كي لا تختنق الزهرة التي تكونها بعبيرها.
فما تعانيه من ضغوطٍ وقيودٍ من مجتمع ضاق بأحلامها التي أبقتها مخبوءة في أعماقها، لتوخزها وخزاً، يدفعها وبقوّة كي تقول الشعر لتنسجم مع المحيط، وتستسيغ الحياة.
يُعدُّ عنوان الدّيوان " لا شريك لك في القلب" مفتاحاً لكلّ القصائد التي يتضمنها، فالحبّ يشكلُ الموضوعة الأساس التي ترتكز عليها القصائد، بما يتقاطر عن هذا الحبّ من لهفة، ورغبة، ولقاء، أو هجر وخيانة.
فالدّيوان يخصّ " أنثى" تحتفي بعالمها، أو ترثيه. ابتداءً من نزف حروفها الأولى، وحتى آخر قصيدة فيه، فهي كأية امرأة تجتهد لكي تُحِبّ وتحَبَّ، تسهر، وتُهجر، تعاتب وتفارق، وتألم وتتشظى، ترغب وتنتظرُ. تجتهد لأن تكون الأنثى المشتهاة بكاملِ تفاصيلها، لا أن تجد نفسها مقيّدة بأكثر من قيد، فتضج الرّوح وتأنف الاستمرار لأن كلّ شيء يستحيلُ قيداً منغصاً لها. حتى الليل الذي يتغنّى به الشعراء والعاشقون تشعرُ به يتواطأ مع من يحيكون المؤامرات لتقييد حريتها، فيأسرها بالسّهر الممضّ، ولا يتركها تنام. فهل السّهر نعمة أم نقمة لذات قلم ووجع؟! كذلك نجد التقاليد في المجتمع تحيك لها سجناً لا تستطيع فكاكاً منه، وكذا الخوف، والبرد الذي يحيق بالوسادة، فتتساءل متى تتخلص منه؟!
إنها أسئلة امرأة تعاني تأزماً، وضياعاً وكبتاً لصراخ في الحنجرة. وبعد تدقيق بالأسئلة التي أرقتها نجدها تخصّ امرأة عاجزة عن افتعال ثورة، أو قيامة حقيقية تدمّر كلّ شيء لتطلع بصياغة جديدة. لقد اكتفت ميساء بأن تقف أمام المرآة.. وما المرآة إلا الرّجل الذي ترى كلّ شيء من خلال وجهه، تراه وجهها هي.. وهذا ما تؤكده القصائد:
"مرآتي
لا ترى
إلا وجهك"
وتروي كيف تكون الضحية بين الأهل والأقارب، وعفن تقاليد مجتمع مازال ينظر إلى المرأة بأنها خزي وعار، وعليها أن تستتر وتقبع في بيتها:
".. كنت الذبيحة
في العشيرة والطريدة
من قرى الاشباح
والتأويل
فأنا المحاطة بالرياح.. وبالعفن
وأنا السليبة
لا ستار ولا ستر.. "
وإن أرادت أن تكسر هذا القيد وتتمرد تجد ما تقوم به ينال استهتاراً من الآخرين، بل يعدونه "خروجاً من سجون عاهرة"، وكأن التمرد أو الثورة يتطلبان إذناً أو موافقة، أو تماشياً مع رغائب الغير؟! لهذا فإنها تكتفي بالوقوف أمام مرآتها وتلهج بغيابات رجل.. تحاول أن تُخرجَ أمام السّطوع الرّاجف بعضَ أحلام، بيد أن ثمّة سيفاً يحزّ رقبة الأحلام، لتبقى غرفتها، مسرح حضورها، حاضنة عالمها الخاص، مدناً تطرد الطامعين بها، والراغبين باقتحامها:
"غرفتي
مدن
تطرد الغزاة "
إذاً تحاول الشاعرة أن تتمرّد، لكن تمرّدها لا يكون إلا في حدود الصراخ المكتوم، في وجه رجل خان، أو هجر، حتى لتشعر أنها أرملة تكابد صبراً وعطشاً، وترى كلّ شيء حولها يولد لديها قهراً تعانيه أرملة، كالوقت والطرق، والأرض، وحتى القصائد، الصداقات، الوفاء..
"القصائد أرملة
الشعراء المتشاعرين
الهائمين
بكذبة كبيرة.."
إنها امرأة مستلبة من الداخل، أنثى ذات رغائب، تصرخ في وجه كلّ من لا يعترف بذلك:
"أنا أنثى
تذكر أنني أنثى
لست قديسة
كي أصلي
لحظة الغليان.."
ولعل هذه الصرخة تمتدّ أكثر لتصل سطح المرآة، فتنشر البخار فوقه، وتمدّ أصابع من غضب لترسم فوقها وجعاً واحتجاجاً على الندّ:
"رجولتك تعلقها
شماعة
لأربع نساء"
من الواضح اجتهاد الشاعرة ميساء، وتدفقها الملحوظ كي يبقى قنديل الشعر مشتعلاً، تدفع إليه بالزيت ليضيء كلّ حين، ولعلّ ما تكتبه الآن، وما تنشره هنا وهناك يشفّ عن ملامح أكثر عمقاً مما في ديوانها الأول، الذي يضمّ باكورة القصائد، وهذا أمر طبيعي، فالتجربة تغتني، والأسلوب يستقيم ويزدهي، ويتجدّد ليواكب تطورها. فالشاعرة مسكونة بالعطاء، وبإثبات الذات الشاعرة فيها، فنراها تشحن طاقتها من أجل أن تغزل الإنسان المقهور والموجوع الذي يسكنها، وتجعل له مكاناً في الحياة، تأمل أن تطلقه عبر الأبواب المغلقة، والتي ستنفتح ذات يوم:
"على أبواب المدن المستباحة
ظلام.. سواد.. رماد
دماء.. ووجوه صفر
لهذا أدرت وجهي عنه.. عن ناره
الموقدة
وأبوابه الموصدة
فتحت نافذة للحياة.."
وإذا كانت قد أدارت الوجه عما يجري من أحداث على مستوى أرض ووطن وشعب، فلأن حرائقها قد قضت على جزء كبير من غاباتها، التي في داخلها، لهذا باتت رماداً، وعليها أن تنطلق من ذاتها المهيضة، وتناشد البياض الذي تعشق، والذي يكون ضد الخراب والفساد والظلام، نجده رافلاً في خصوصياتها وموجودات تحفُّ بها، مثل لوحات البيت والستائر، لون الشراشف، وحتى الثياب.. وهذا يذكرنا ببياض الشاعر الرّاحل"أمل دنقل" الذي كان يراه في أغطية السرير والورود ورداء الممرضة والجدران. وشتان ما بين المدلولين، فالشاعرة ترى البياض يدعو إلى الحياة والكتابة، وتدفق الأحاسيس، وتراه في انتظار امرأة عاشقة لرجل، في حين بياض الشاعر كان دعوة إلى الموت، بل هو موت بحدّ ذاته، يرتديه الميت، والحزينون يرتدون السّواد تأكيداً منهم على خلاصهم من الوقوع في براثن النهاية الباردة.
إنّ ديوان الشاعرة " لا شريك لك في القلب" تنوّع بحيث ضمّ قصيدة الومضة، التي جاءت برقاً خاطفاً في فضاء النصّ الشعريّ، أضرمتها الشاعرة من مشاهدات لواقع تعيشه بعد أن شكّلته وفق رؤيتها وتجربتها وأسلوبها، والواقع الذي تنهل منه، هو واقع امرأة تُعاني الوجع والخيانة والدّموع المدرارة على الخدود والأصابع والوسادة:
"مرآتي
لا ترى
إلا وجهك
وجعي
معزوفة تتقاسمها
الأيام.."
إن الكثير مما جاء في الدّيوان لا يقف عند تعبير، وفكرة فحسب، وإنما جاءت القصائد مشغولة بسياق جميل، التزم أغلبها بموسيقا وقافية، ما أكسبها لحناً.
وقد حاولت الشاعرة بكلّ ما أوتيت من رغبة أن تستنهضَ أشكالاً متعدّدة، فثمّة قصائد موزونة تناثرت هنا وهناك، اعتمدت فيها على القافية والوزن كقصيدة: عليك أغار، وهي زاخرة بموسيقاها، ومفرداتها المنتقاة بأناقة حرفية، ولغتها الجميلة، وكذلك قصيدة دمشق، فكرامتي لن تشترى وتباعا..
"ما بين أيام فدينك سراعا
عصفت بأحلامي أسى وضياعا"
كما تنوّع الدّيوان بقصائد التفعيلة مثل قصيدة " لا شريك لك في القلب" في حين مارت قصائد النثر بلغتها وجماليتها، لكن قصيدة الومضة كان لها الحضور الأكبر، ومعظم أفكارها تدور حول همّ الشاعرة بنصفها الثاني، والانشغال به. لتأتي القصيدة كومض وجداني، وبتعبير مكثفٍ يستنفد اللحظة الشعرية، ويقبض عليها، ولعلّ قارئ هذا الشكل يستطيع أن يلمّ بتجربة شعورية تعبّر عن لحظة مختزلة، تفجّر مساحاتٍ من الإيحاء والدّلالات، بألفاظ قليلة بيد أنها تفيضُ معنى:
" أشاركك الحبّ
القهر
الموت
وأنت تشارك امرأة أخرى"
فهذه الومضة تحكي حكاية كاملة لامرأة أحبّت، وتقاسمت مع من تحبّ كلَّ منغصات الحياة، وظلت وفيّة لا شريك له في قلبها، إلا أنه كان على علاقة مع أخرى. ترى بماذا شاركها؟
ثمّة مجموعة من قصائد الومضة جاءت في الدّيوان تحت عنوان واحد، إذ تشكلّ ثلة من اللحظات المتتالية، احتفظت برائحة ونكهة واحدة، مفعمة بقوتها، وعمقها، ولها تأثيرها سواء كانت مجتمعة تحت خيمة العنوان، أو متفرقة أخذت أرقاماً مثل: ليل- عطري- اسمك- تعري- فراشات.. الهموم الخ.
هذه الومضات هي اللافتة بحضورها الماتع، إذ تشبه اشتعالاً في عتمة، ولمعاً يضيء سطح المرايا.
ننتظر زمناً قادماً تمطرنا به الشاعرة بشلال من ضوء، تهدينا تسابيح خميلة تكون فيها زرقة الماء بريقاً، والأفق رحباً لأحلام كبيرة، ولا ضير من انكسارات تدفع أكثر لمواصلة الطريق.