تركيا بين سؤالَي الهوية والسلطة.. بقلم: الياس سحاب

تركيا بين سؤالَي الهوية والسلطة.. بقلم: الياس سحاب

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٩ يوليو ٢٠١٦

الصراع الذي اشتعل مؤخراً في تركيا بين الانقلابيين وأنصارهم من جهة وسلطة «الاخوان المسلمين» ممثلة بـ «العدالة والتنمية» من جهة أخرى، جاء ليثبت أن المنطقة العربية ليست وحدها مَن يعاني حتى اليوم من تخبط في التوفيق بين الخروج من بين حطام السلطنة العثمانية، والدخول في العصر الحديث بكل متطلّباته. إذ حتى تركيا، قاعدة تلك السلطنة التي استمرّت قروناً أربعة، ما زالت تعاني من الأمر نفسه.
لقد جاء أتاتورك ليُخرج تركيا من بين ركام السلطنة ويدخلها في عصر مقطوع عن ماضيها. فاعتمد أسلوب الصدمة ليعيد إنتاج هويتها الثقافية والاجتماعية على شاكلة مختلفة. لذلك كان من الطبيعي أن تظهر في المجتمع التركي مؤشرات رفض عميق لمسار التغيير المذكور. وكان طبيعياً أيضاً أن يتمثّل الرفض هذا بقوى سياسية تحمل عقيدة الإسلام السياسي وتحنُّ إلى إرث امبراطوري انقضى، بطريقة تفتقد بدورها إلى التوازن بين مقتضيات الأصالة والمُعاصرة.
لقد عكس تاريخ تركيا طيلة القرن العشرين هذا الصراع بين التيارين المشار إليهما، وهو ما دفع الجيش التركي الذي أسّسه أتاتورك الى تنظيم أربع دورات متعاقبة من الانقلابات العسكرية للحفاظ على «علمانية» الدولة. في المقابل، كانت القوى المناهضة لأتاتورك وتياره تسجل فشلاً سياسياً تلو الآخر، لافتقادها هي الأخرى الى التوازن بين معطيات التاريخ ومتطلبات الحاضر. وهي دأبت بعد كل فشل على تغيير اسم الحزب بدلاً من تطوير عقيدتها السياسية، إلى أن ظهرت بنسختها المطوّرة ممثلة بـ «العدالة والتنمية» كمن بات قادراً على توظيف خبرته في التعامل مع مقتضيات الحداثة.
وقد برزت أثناء «الربيع العربي» وتسلّم «الإخوان المسلمين» زمام الحكم في مصر، نصيحة من جانب زملائهم الأتراك عُبّر عنها مواربة أو صراحة، مفادها الدعوة إلى الإفادة من التجربة التركية، لكن الإصرار «الإخواني» في مصر على إنجاز مشروع الجماعة بنسخة تكاد تكون تقليدية، عجّلت في انهيار التجربة إثر موجة احتجاجية في الشارع توّجها تدخل العسكر.
على أن أردوغان بدا كمن يحنّ إلى مدرسته التقليدية مؤخراً، فراح يُرسمل على نجاحه في كبح الانقلاب ليُخلّ بالميزان مجدّداً، جاعلاً أحلام السلطنة وإرثها في الداخل التركي أكثر ثقلاً من المسار الحداثي الراديكالي الذي خطّه أتاتورك.
فكان طبيعياً أن يعود الصراع القديم بين التيارين الرئيسيين اللذين اختزلا سؤال الهوية التركية منذ أن اضطرت اسطنبول أن تتخلّى عن وجاهتها لأنقرة، وأن تترك إرث السلطنة العثمانية خلفها. وبرغم أن الأحزاب التركية المعارضة لأردوغان أجمعت على رفض الانقلاب العسكري الأخير، إلا أن تعامل الرئيس التركي مع قضية الانقلاب لا يصبّ في خانة الانتصار للديموقراطية، بصفتها أحد تجليات الحداثة، بل انتصار لزعامته الفردية، وتقليص مساحة الاعتراض إلى الحدود الدنيا.