العسكر إذا حكم وأردوغان إذا استحكم .. بقلم: نصري الصايغ

العسكر إذا حكم وأردوغان إذا استحكم .. بقلم: نصري الصايغ

تحليل وآراء

الاثنين، ١٨ يوليو ٢٠١٦

غداً، في تركيا، يوم آخر.
أكثر من ذلك: غداً، زمن آخر جديد.
قالت تركيا للعسكر، اخرجوا من السياسة. الأمر يصدر من صناديق الديموقراطية، وعلى البندقية أن تمتثل للإمرة السياسية. وضعت تركيا، بإجهاضها الانقلاب العسكري، نهاية لماضٍ كان فيه الجنرالات يتصرفون بالسياسة كأن تركيا ثكنة عسكرية ويُجرون المناورات في حقول الرماية المدنية، بلا حسيب ولا رقيب.
ورث العسكر التركي دولة ولدت من انتصار بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية. دولة انتزعها الجيش بقيادة كمال أتاتورك، من ركام التقاسم الدولي وهزالة الخلافة الرثة. وتصرَّف العسكر على أنهم الأوصياء، وحكموا بأعقاب البنادق والرجال البيادق.
غداً، تركيا بطريقة أخرى.
لم يكن حكم أردوغان ديموقراطياً بالتمام. نواقصه فادحة. ولكنه حكم نطقت به صناديق الانتخابات. وهذا كافٍ لشرعية السلطة. الشعب هو المرجعية وليست دبابات العسكر وأوامر الثكنات. أخطاء أردوغان ثقيلة ومكلفة. الحريات الإعلامية تضيق والإعلاميون فقدوا حصانة القلم والرأي. اقتادهم أردوغان بالمئات إلى الحكم. التوازن بين مكوّنات الدولة التركية مفقود. «العدالة والتنمية» الاخوانية احتكرت السلطة المركزية والسلطات المحلية في الأطراف. لا تجد من المكوِّن العلوي مسؤولاً أول. الأكراد مطاردون في الجبال والبلدات والقرى. حرب بلا هوادة واتهام بالإرهاب. آخر «جنونه» ملاحقة النواب الأكراد من خلال سيف رفع الحصانة عنهم في البرلمان، تمهيداً لمحاكمتهم، وهم المنتَخبون ديموقراطياً، ولإقصائهم عن التمثيل. لعله في ذلك ينال أكثرية مريحة في البرلمان، لتكريس طموحه بتعديل الدستور لجهة إرساء نظام رئاسي على قياس السلطان أردوغان، وليس على قياس الرئيس رجب طيب.
مردود سياسات أردوغان الخارجية بحجم الكارثة. كان من المفترض محاسبته ديموقراطياً، عبر صناديق الاقتراع. حمتْه إسلاميته. الدين والديموقراطية، متعارضان. لا توازن بين الطرفين. للدين غلبة دائمة على الديموقراطية، في المجتمعات المتدينة التي تصرف تديّنها في الشعائر وفي السياسة، أكثر مما تقدمه قرباناً وصلاة وتراحماً. رصيد أردوغان السياسي، هو ديني في الأساس. العلمانية لا تورّث. لأنها خيار لا اتباع.
«الربيع العربي» فضح أردوغان. من «صفر مشاكل» إلى «كل المشاكل» دفعة واحدة. كان «الربيع العربي» علمانياً وديموقراطياً، ولم يكن ربيعاً إسلامياً ولا كان صحوة دينية. الانتهاز الديني كالانتهاز المالي الرسمي. «اخوانية» أردوغان صادرت حيزاً من جمهور «الربيع العربي». من أجل ذلك، حوَّل تركيا العلمانية، نصاً ودستوراً، وشرائح واسعة من الشعب، إلى «فاتيكان الاخوان». سابق الوهابية في سوريا. عداؤه للنظام فيها حوّله «قائد عمليات» جهادية إسلامية. باتت الأراضي التركية ملجأ للنازحين، وممراً آمناً لـ «داعش» ومستقراً لجماعات مسلحة ومقراً لقيادات معارضة الخارج المدنية. لم يختلف سلوك تركيا عن مغامرات السعودية وسياستها في رعاية التطرف الديني وعسكرة الفئات المعارضة، بالسلاح وبالوهابية. تطرف ديني استولد تطرفاً غير مسبوق تاريخياً، فارتدَّ في ما بعد على البلدين بعمليات انتحارية مرعبة.
في سنوات ما بعد «الربيع العربي» المغدور، خسرت تركيا طموحها في أن تكون قاطرة المنطقة، منافسة في ذلك الدور الإيراني المتعاظم، ومساهمة في الدور الإسلامي السني عبر مشاركة المملكة على مضض، وقطر كعرفان بالجميل لا أكثر. حساب الحقل لم يكن على حساب البيدر. «وطن الاخوان الأول» في مصر، سقط مضرجاً وسحق سحقاً. في سوريا، لا حياة لأحد بعد. الإسلاميون بفروعهم المتباينة في مأزق. لوثة التكفير لغة الأكثرية فيهم... الأكراد يتقدمون في سوريا، بدعم «الحليف اللدود» باراك أوباما. قال لأردوغان: «بين تركيا والأكراد، هناك مكان ومكانة للأكراد». جُنّ جنون أردوغان. حربه على الأكراد بلا نهاية. بين الحرب والتسوية يفضّل الحرب. ولقد كانت خسائره فادحة. الإرهاب يقيم في مدنه ويضرب بلا حساب. أما أزمة النزوح، فتحوَّلت تجارة خاسرة مع أوروبا.
غداً، في تركيا، زمن آخر جديد، هو زمن الأسئلة.
أردوغان امام امتحان القوة. هو الأقوى بصناديق الاقتراع وهو الأقوى في تصدّيه للعسكريين الانقلابيين، وفي إنقاذه تركيا من جحيم الديكتاتورية العسكرية. حصل له ذلك بقوة «المثلث الذهبي»، «الشعب والحزب وقوى الأمن»، كل ذلك، مناسبة لطرح الأسئلة:
السؤال الأول: هل سيسكر بالانتصار ويحتكر القرار ويوفر الظروف ليصبح ديكتاتوراً مدنياً، أم سيقيم توازناً بين السلطات، مع استقلالية القضاء والتشريع عن السلطة التنفيذية؟
السؤال الثاني: ما سيكون مصير الحريات العامة؟ هل، بحجة ملاحقة الانقلابيين، ستتم ملاحقة ومطاردة المعارضين المدنيين؟ هل سيكون الثأر قاعدة أم تطبيق القوانين هو الأساس؟
السؤال الثالث: هل سيكون «الدفاع عن الإسلام» بالاقتصاص من العلمانية، وما قيمة دولة القانون في ظل سلطة الاستنساب؟
الأسئلة الأخرى: ألا تفرض الواقعية السياسية مساءلة المرحلة السابقة، بدلاً من التغطية عليها بسياسات التعامي والتعالي؟ مساءلة العنف المصدَّر من تركيا والعائد إليها؟ مساءلة دعمها المجنون لفئات متطرفة؟ تصلّبها المطلق بشأن الحل السياسي في سوريا؟ رفضها أي حل في الأفق مع الأكراد، لحل أزمة عمرها قرن؟
ليس عند العرب زمن آخر غير هذا الزمن الكارثي الذي يعيشونه.
الغد العربي، هو حاضرهم. خريطة الدم من اليمن إلى الصومال إلى جنوب السودان إلى ليبيا إلى سوريا إلى العراق، إلى آخره، تشير إلى زمن النهايات وليس إلى زمن الولادات.
هذا الزمن العربي، بعضه كان، نتيجة حكم العسكر الذي جاء السلطة بالدبابات وألغى الحرية والديموقراطية والإنسان، فكان هذا التدمير الذاتي. إننا ندفع ثمن حفنة من العسكر، لا أقل ولا أكثر.
هذه هي نتائج العسكر إذا حكم.
أردوغان مدني، قد تكون ديكتاتوريته أشد وطأة من حكم العسكر، وتكون تركيا بعد الانقلاب قد خسرت، فيما ربح أردوغان فرصة الحكم الرئاسي المطلق بثياب مدنية. ستكون هذه عملية اغتيال مديدة.
السفير