بين «إرهاب نيس» و«انقلاب أنقرة»: غموض في الأحداث والمستفيد واحد

بين «إرهاب نيس» و«انقلاب أنقرة»: غموض في الأحداث والمستفيد واحد

تحليل وآراء

الأحد، ١٧ يوليو ٢٠١٦

من «نيس» إلى «أنقرة» والسُّبحة لن تتوقف؛ أحداث وإن اختلفت بمراميها وأهدافها لكنّ شيئاً واحداً يجمعُ بينها، الغموض الذي لا يمكننا أن نفكك شيفرته ما دامت التداخلات الإقليمية والدولية، وتضارب المصالح والتقاؤها حتى بين الحلفاء والأعداء وفي كل الاتجاهات هي المسيطرة.
ضرب الإرهاب مجدداً فرنسا، لكن أقلّ ما يُقال عن الحدث الذي ضرب «نيس» هذه المرة إنه ساذج. السذاجة ظهرت بقدرة سائق شاحنة على العبور لمنطقة التجمهر لمشاهدة الألعاب النارية، والتي عادةً ما تكون وفي كل المدن الفرنسية ممنوعةً حتى على الدراجات النارية، فكيف وإن كان الأمر بشاحنة متوسطة!؟ النقطة الثانية تتعلق بالتخبط الذي أظهرته الأجهزة الأمنية، فالإرهابي بالنسبة لها (فرنسي- تونسي)، مع العلم أن وسائل إعلام فرنسية نشرت صورةً عن هويته التي تثبت أنه تونسي يحمل بطاقة إقامة مؤقتة. أما تعامل الشرطة مع الحدث فكان أكثر غرابة، فإن كانوا يجهلون طبيعة الحافلة ولا يريدون إطلاق النار على سائقها رغم تجاوزه المنطقة المحظورة، فلماذا لم يحاولوا إطلاق النار على العجلات مثلاً، ثم ما الفكرة من قتل السائق، تحديداً أنه فعل كل ما يمكن فعله بحق الأبرياء، ألم يكن من الممكن توقيفه لمعرفة الجهات التي تقف خلفه، تحديداً أن الجهة التي أرسلته لربما تهدف من خلال اتباع أسلوب «الدهس» الضرب على وتر ما يجري في فلسطين المحتلة أولاً، وما تريده فرنسا من خلال الضغط على الكيان الصهيوني عبر المجتمع الدولي للعودة للمفاوضات، وهو ما نبهنا إليه منذ أحداث «باتاكلان»، بأن أهم مستفيد من تحريك الإرهاب في فرنسا هو ذاته الممتعض من النهج الفرنسي «المستجد» بما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
أما فرانسوا هولاند فيبدو أنه ما زال تحت صدمة خسارة فريقه النهائي في أمم أوروبا، لأنه لا يبدو كمنفصل عن الواقع فحسب، بل بدا وكأن الحدث الإرهابي فرصة للترويج لحملته الانتخابية القادمة، ففي كلامه لم يحاول أن يدافع عن سياساته الخارجية فحسب، بل أكد أنه مستمر بذات النهج حتى آخر ضحية، بالنسبة له فإن تعزيز الأمن في فرنسا يكون بتعزيز الوجود العسكري في سورية والعراق، حديث يشبه تماماً خروج جورج بوش للحرب على الإرهاب في العراق مع أن جنسيات منفذي 11 أيلول كانت معروفة! علماً أن كلام هولاند جاء حتى قبل أن تعلن «داعش» تبنيها للعملية الذي جاء متأخراً هذه المرة، فإما أن خدمة الإنترنيت لم تكن متوافرة لدى «الخليفة البغدادي»، أو أن هناك من طلب منه تأجيل الحديث عن التبني كي لا يضيع في زحمة الحدث التركي. لا نعوّل على الطبقة السياسية الفرنسية، لكن لماذا لا يطرح الفرنسيون أنفسهم هذه التساؤلات المنطقية:
لماذا اختفى فجأةً اسم «القاعدة» من تبني أي حدث إرهابي، هل لأن اسم القاعدة بات مرتبطاً بتنظيم «النصرة» الذي يشكل الفرنسيون مع الأتراك أحد أهم الراعين لهم علناً ومن دون مواربة؟ ثم إذا كانت داعش تبنت، فمن الذي يقيم معها علاقات تجارية ونفطية ويشرّع حدوده لها بل يساندها ضد «الأكراد» في معركة «عين العرب»؟
لا يحتاج السؤال للكثير من التفكير للإجابة، الشخص هو ذاته الذي سارع «اتحاد هولاند الأوروبي» يوم أمس لإنقاذه من محاولة الانقلاب التي استهدفته، فهل إن المصالح الفرنسية ومن خلفها الأميركية تقتضي بقاء أردوغان ردحاً من الزمن، أم إن ما جرى لا يعدو كونه مسرحيةً أردوغانية لكسب المزيد من الشعبية ولو على حساب دماء الأبرياء؟
لكي نفهم ما جرى في تركيا، ليس علينا العودة فقط لما كتبته كبريات الصحف العالمية منذ أشهر عن التخطيط لانقلاب في الجيش على «أردوغان»، لكن علينا أن نتذكر أنه منذ يومين ومن دون مقدمات أعلنت فرنسا إغلاق مقار بعثاتها الدبلوماسية في تركيا بذريعة التهديدات الأمنية، يومها لم تحذ باقي الدول النافذة حذو الفرنسيين، وبمعنى آخر: هل كان الأوروبيون والأميركيون على اطلاع بما يخطط له قادة الجيش، أم بما سيقوم به «أردوغان»؟
إن الغموض الذي لفّ الساعات الأولى للأحداث، والتخبط الذي أظهرته حتى بعض القنوات المستعربة في التعاطي مع الحدث يثبت أن الأمر لا يمكن أن يكون مسرحية أردوغانية، فرئيس الأركان مجهول المصير حتى الآن، والقتلى بالمئات والجيش لم يواجه منشقين عن الجيش بل واجه قوات الشرطة المعروفة بولائها لـ«العدالة والتنمية». ثم إن ميزان الربح والخسارة ليس في مصلحة «أردوغان» لإخراج مسرحية كهذه، إذا كنا نعي بأن «أردوغان» ليس إلا صورةً لمريديه ومناصريه إن كان بالعنصرية أو التطرف، حتى لو كانت نسبتهم 90 بالمئة من الأتراك وهو واثق أن شعبيته انطلاقاً من هذين الخطابين لن تتأثر. إذا سلمنا بأنها ليست مسرحية، فهل هو انقلاب برضى أميركي؟
أولاً، إن إعلان «أردوغان» تحميل الولايات المتحدة مسؤولية ما يجري لا يعدو كونه تبييضاً للصفحة أمام مناصريه من «المتأسلمين» وليس الأتراك فحسب؛ هو على طريقة «القدس لها رجالها» لكن لا مانع من تسول رضا «بنيامين نتنياهو» لتطبيع العلاقة مع «إسرائيل»، حتى الهجوم على أتباع «فتح اللـه غولن» لا يبدو منطقياً، فالحركة كانت قد أدانت العملية حتى قبل إدلاء «أردوغان» بمؤتمره الصحفي في مطار «أتاتورك»، هذا بمعزل عن رفض أحزاب المعارضة ومن دون استثناء للانقلاب، وربما هذا الرفض هو الذي جاء بتوجيه أميركي. أما النقطة الثانية المتعلقة بما يمكننا تسميته «فركة أدن» أميركية لـ«أردوغان» كما نبهنا منذ أسابيع لمنعه من تعديل مواقفه تجاه سورية، والتي بدأت باعتراف ألمانيا بمجازر الأرمن ثم تفجيرات مطار «أتاتورك» لتنتهي بالمحاولة الانقلابية، لربما ما يدعم هذه الفرضية هو مسار الأحداث، فالانقلابيون امتلكوا الطيران مثلاً فلماذا لم يقوموا بقصف مقر «أردوغان» إلا بعد خروجه، لماذا لم يقوموا بإسقاط الطائرة أساساً عند تحليقها في الجو، ثم إن ألف باء أي انقلاب هو السيطرة على المقار الرسمية ووسائل الإعلام، فما الذي أنجزه هؤلاء؟ تبدو الأسئلة منطقية لتقودنا نحو فرضية أن الأمر أرادته الولايات المتحدة كجرس إنذار لـ«أردوغان» لكن هذه الفرضية أشبه بمغامرة خطرة لا يمكن للولايات المتحدة أن تلجأ إليها ولو من باب الضغط، في ظرف كهذا تبدو فيه بأشد الحاجة لـ«أردوغان» على علاته، إذاً فما الذي جرى؟!
يبدو التوصيف الحقيقي لما جرى أنه ليس انقلاباً على «أردوغان» بل انقلاب على سياسات الولايات المتحدة قام به مجموعة من الضباط الذين يرون أن تركيا ذاهبة نحو الهاوية انطلاقاً من فرضية «أميركيا ليست قدراً»، لذا فهي سارعت لنجدته مهما حاولوا إظهار العكس، وإذا كان «يلدريم» هدد بالأمس الدول التي تتعاطى مع «غولن»، فلنتابع مسار الأحداث وكيف سينسى الجميع هذه التهديدات وتعود الولايات المتحدة كسدّ منيع يحمي الأذرع السياسية للإرهاب. عندما يُستنفر الاتحاد الأوروبي، وتدين قطر، وينزعج «آل سعود»، ويضطر «القرضاوي» للتذكير بفتوى منع الخروج على الحاكم، فاعلم أن حدثاً جللاً يهزهم. عندما يضطر «أردوغان» للطلب من مساجد تركيا التكبيرات والدعوة للوقوف بوجه الانقلابيين انطلاقاً من خلفيات مذهبية، فيلبون النداء عبر قيامهم بذبح الجنود من دون محاكمة وفي الساحات العامة على الطريقة الداعشية، فاعلم أن السؤال لم يعد نجح الانقلاب أم فشل، السؤال ماذا بعد هذا الانقلاب؟
من باب المصداقية، لو افترضنا أن الانقلاب كان قد نجح فلم نكن لنأمل أن الانقلابين سيعيدون لنا «لواء إسكندرون المحتل»، ولا حتى اعترافهم بمجازر الأرمن، لأنه ليس في الأساس نصراً للسوريين، هو بالنهاية نصر لطرف تركي على آخر، بل إن التاريخ يشهد أن سورية في عصر القوميين شهدت أسوأ العلاقات مع تركيا، ولكن من باب المصداقية أيضاً لا يمكننا اعتبار تجاوز «أردوغان» للعملية الانقلابية بمنزلة انتصار له، عندها سنسأل مروجي هذه الفكرة انتصار على من؟ فالأكراد وقفوا على الحياد لأنهم يعلمون أن بقاء «أردوغان» حالياً بـ«ذعرانه» أفضل لمشروعهم، ولكي نكون دقيقين أكثر فإن المشروع الكردي ينجح عبر الفوضى لا عبر الاستقرار، وهذه الفوضى تتحقق بوجود «أردوغان»، حتى باقي أطياف الشعب التي صمتت فربما لأنها تعلمت من الدرس السوري وما جلبته الفوضى، أي إن الوضع وعلى جميع المستويات في تركيا بات الآن أشبه بالماء الذي انسكب من الإناء على الأرض، لا يمكن لنا نكران حقيقة وجود الإناء ووجود الماء، لكن الماء لن نستطيع إعادته للإناء، والعوامل التي أنقذت «أردوغان» من الناتو إلى وسائل الإعلام وصولاً للتحريض المذهبي والقومي هي ذاتها التي ستكون بعد فترة أسباب المزيد من التشتت في تركيا، والأثمان لا يبدو أنها دُفعت الآن، وحدهم من دفع الثمن هم الانقلابيون لأن هناك من خذلهم، ليس على المستوى الشعبي فحسب، لكن حتى على مستوى بعض التصريحات من الدول التي من المفترض أنها على عداء أو خلاف مع «أردوغان» ومن لا يصدق فليراجع تصريحات بعض الدول؛ الإقليمية تحديداً، ألم يُقال يوماً إن الصمت في مكانه أفضل من الكلام، ليتهم صمتوا.