استعدوا للآتي الأعظم.. بقلم: هاني المصري

استعدوا للآتي الأعظم.. بقلم: هاني المصري

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٢ يوليو ٢٠١٦

بات من الملحّ إجراء مراجعة لمكانة فلسطين الدولية قبل أن تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة، لا سيما في ظل التطورات بالغة السوء التي حصلت خلال الفترة القصيرة الماضية كثمرة خبيثة لما تشهده المنطقة العربية من حروب وشرذمة وانقسام.
وتتمثل هذه التطورات بمكافأة إسرائيل بدلًا من معاقبتها بفوزها برئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة بعد تصويت 109 دولة لصالحها، منها أربع دول عربية، وصدور تقرير عن «اللجنة الرباعية» منحاز لإسرائيل، وهابط بالموقف الدولي إلى مستوى لم يسبق له مثيل، ما ينذر بـ «عظائم الأمور» ما لم يكن هناك تحرك فلسطيني بمستوى هذا التحدي، خصوصًا إذا تبنّاه مجلس الأمن، الأمر الذي يجعل فلسطين معرضة لخسارة الشرعية الدولية.
ومن هذه التطورات أيضًا الاختراق الإسرائيلي لعدد من الدول العربية بذريعة التعاون ضد «الاٍرهاب السني» و «الخطر الإيراني الفارسي الشيعي»، لدرجة بتنا معها نقترب من الشروع في الحل الإقليمي الذي بادر إلى طرحه أفيغدور ليبرمان قبل أن يصبح وزيرًا للحرب، وتبنته الحكومة الإسرائيلية. حيث يظهر ذلك من خلال الترويج لأولوية تحقيق السلام العربي ـ الإسرائيلي كمقدمة لتحقيق السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بعد عقود من اعتماد العرب لأولوية حل القضية الفلسطينية وتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة على تطبيع العلاقات العربية ـ الإسرائيلية. هذا فضلاً عن استخدام العرب للضغط على الفلسطينيين لتقديم تنازلات، مع ما يعنيه ذلك من توظيف المفاوضات التي يمكن أن تجري لحل القضية الفلسطينية للتغطية على التطبيع العربي مع إسرائيل، وهو ما من شأنه أن يقود إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر تنفيذ الحل الإسرائيلي أو تعليقها حتى إشعار آخر.
يضاف إلى ما سبق مبادرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الرامية إلى تحويل «السلام البارد» مع إسرائيل إلى «سلام دافئ» واستئناف المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية وإجراء مصالحة فلسطينية داخلية. علماً أن الأمر يأتي تزامناً مع زيارة وزير خارجيته إلى تل أبيب لأول مرة منذ تسع سنوات وسط أحاديث متزايدة عن لقاء يجمع الرئيس المصري بنتنياهو وعن قمة ثلاثية فلسطينية ـ إسرائيلية ـ مصرية، تمهيدًا لمفاوضات فلسطينية ـ إسرائيلية برعاية مصرية وأردنية، ما يعني أنّ العرب يمكن أن يتحولوا إلى وسطاء. هذا فضلاً عن الاختراق الإسرائيلي لأفريقيا بعد زيارة نتنياهو الأخيرة التي قرّبت الدولة العبرية من الحصول على العضوية المراقبة في منظمة «الوحدة الإفريقية»، وبالتالي احتمال خسارة أكبر تكتل إقليمي يدعم القضية الفلسطينية.
ويصب في السياق السلبي نفسه إنجاز المصالحة التركية ـ الإسرائيلية، ومن شروطها عدم مساهمة أي من الطرفين بخطوات في المحافل الدولية يمكن أن تلحق الضرر بالطرف الآخر، الأمر الذي سيحيد الدعم التركي للحقوق الفلسطينية. وقبل ذلك جاء تطور العلاقات بين روسيا وإسرائيل، بحيث يتم إطلاق يد موسكو في سوريا مع الحفاظ على المصالح الأمنية والاستراتيجية لتل أبيب، في مقابل غض موسكو نظرها عما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين. ولعل هذا يفسر صدور تقرير «اللجنة الرباعية» من دون اعتراض روسي، إضافة إلى إنجازات إسرائيل في علاقاتها مع الهند والصين ودول أوروبا الشرقية وغيرها من الدول التي كانت معروفة بتأييدها للقضية الفلسطينية ومناهضتها لإسرائيل.
تأسيسًا على ما تقدم، لا بد من تجاوز حالة الإنكار التي تظهر في الحديث الرسمي الفلسطيني المدعوم عربيًا عن «انتصارات ديبلوماسية» مزعومة، علماً أن كلاماً من هذا القبيل يُروَّج من قبل أجهزة إعلامية مدفوعة الثمن، ومن جانب مثقفين وأكاديميين وكتّاب مدّاحين لما يقوله الحكام. فإسرائيل لا تعيش عزلة خانقة لا تقوى على احتمالها كما يدّعي هؤلاء، ولا هي تمر بمأزق لا يقل عن ذاك الذي يعيشه الفلسطينيون والعرب.
لا يعني ما سبق أن الفترة الماضية لم تشهد إنجازات، لكنها لا تقارن بالسلبيات المذكورة. كما لا يعني أن الأفق بات مسدودًا، بل هناك احتمالات بديلة في حال توفر القناعة والإرادة اللازمتين. إذ ليس من المقدّر ولا من المحتم نجاح المخطط المرسوم لتصفية القضية الفلسطينية.
لا يوجد وجه للمقارنة بين المأزق الفلسطيني والعربي وبين المأزق الإسرائيلي. فالأول خطر يمس الوجود. إذ بعد مئة عام على اتفاقية «سايكس بيكو»، تشهد المنطقة إعادة رسم لخريطتها ومحاولة جادة لتصفية القضية الفلسطينية أو تعليقها حتى إشعار آخر. بينما مأزق إسرائيل يتمثل بمدى قدرتها على التقاط فرصة تاريخية لتحقيق ما عجزت عنه في السابق، حتى لو كان الأمر يعجّل من وصولها إلى خط النهاية على المدى البعيد لأنها تبتلع ما لا تستطيع هضمه، ولأنها ستبقى جسمًا غريبًا زُرِعَ في المنطقة التي ستلفظه، طال الزمن أم قصر.
غير أن الدولة العبرية تعيش على المديين المباشر والمتوسط في وضع تحسد عليه. إذ تراجعت التهديدات الإستراتيجية التي كانت تجسدها الجيوش العربية والتضامن العربي والثورة الفلسطينية، فيما التهديدات الآتية من إيران و «حزب الله» و «حماس» وتنظيمات مثل «داعش»، لم تعد محدقة، لأن القوى المذكورة مشغولة بحروب وقضايا أخرى عن إسرائيل.
بعد التوقف عن خداع النفس والاستعداد لمواجهة تداعيات الحريق العربي على القضية الفلسطينية، ينبغي تجاوز الوهم القائل بأن الحل على الأبواب، أو بأن الحفاظ على الوضع الراهن ممكن إذا اعتمدنا على السياسة ذاتها التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. فالرهان على الآخرين خاسر، خاصة عندما يكون الفلسطينيون في أضعف حالاتهم ومن دون حلفاء أقوياء، بعدما أهملوا حلفاءهم المنتشرين على امتداد الكرة الأرضية، بتركيزهم، تماماً كحلفائهم العرب، جلّ جهودهم على كسب رضى حكام واشنطن وتل أبيب.
إنّ أقصى ما يمكن أن تفضي إليه الجهود الحالية، من «المبادرة الفرنسية» إلى «مبادرة السيسي» إلى معاودة الحديث عن «مبادرة السلام العربية»، هو استئناف المفاوضات الثنائية بغطاء دولي شكلي مع هيمنة أميركية، وضمن سقف منخفض عن سقف الشرعية الدولية كما لاحظنا في بيان «اللجنة الرباعية»، وفي «المبادرة الفرنسية» التي لن تكون نهايتها أفضل من الرباعية، خصوصًا بعدما فعلت فرنسا كل ما يمكن فعله لاسترضاء إسرائيل، وبعدما دعم الاتحاد الأوروبي توصيات اللجنة الرباعية وأعرب عن تأييده لتبنيها في مجلس الأمن.
لا يمكن الحفاظ على القضية حية وعلى ما تبقى من مكاسب وأوراق قوة، وتقليل الأضرار والخسائر والإبقاء على الوضع الراهن، من دون رؤية شاملة تفتح الطريق لمقاربة جديدة، ترتكز على أولوية العامل الذاتي وترتيبه وتقويته وإنجاز الوحدة الوطنية، وتركّز على تغيير موازين القوى ضمن عمل تراكمي طويل النفس كشرط للتأثير على الآخرين.
نحن نعيش في عالم لا يفهم سوى لغة القوة أو لغة المصالح، ومن لا يتقن استخدام هاتين اللغتين أو إحداهما على الأقل فعليه أن يكف عن العمل السياسي. وعندما تتوفر أوراق القوة والقدرة على التأثير في المصالح يمكن أن تلعب الأخلاق والمبادئ والقانون والشرعية الدولية دورًا مهمًا لصالح الفلسطينيين. أما إستراتيجية العمل الديبلوماسي وحدها، أو كوسيلة رئيسية، فلن تكون في أحسن الأحوال سوى تضييع لوقت ثمين.
إذا لم يكن لديك ما يمكن أن تعطيه أو تهدد به، فلن يسمعك أحد. وإذا لم يكن لديك حلفاء حقيقيون يمكن الاعتماد عليهم، لا يمكن أن تحوّل الأعداء إلى أصدقاء حتى لو لبّيت كل مطالبهم، بل ستجعل الأصدقاء أعداء أو خصومًا أو غير مبالين في أحسن الأحوال.
ليس الوقت الراهن مناسبًا لتحقيق إنجازات كبرى. لكنه يستوجب اتباع استراتيجية سياسية ونضالية ملائمة للحفاظ على القضية حية، وإعادة تعريف المشروع الوطني في ضوء الخبرات والحقائق والمستجدات والتحديات الجديدة.
قد لا نستطيع فرض الحل الفلسطيني حتى لو تمثل بإقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين. لكننا حتمًا نستطيع الحيلولة دون نجاح الحل الإسرائيلي عبر تقديم تنازلات جديدة تساعد على تصفية القضية الفلسطينية. وهذا بحد ذاته أكبر إنجاز في هذه المرحلة، لأنه يمثل أقصى ما يمكن تحقيقه، ويفتح الطريق لمواصلة الكفاح لإنجاح الحل الوطني في مرحلة قادمة حتمًا.