بين «قصف العقول» والإرادة.. دعاية الإرهاب في مواجهة الوعي!

بين «قصف العقول» والإرادة.. دعاية الإرهاب في مواجهة الوعي!

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٢ يوليو ٢٠١٦

في كتابه "قصف العقول.. الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي"، يذكر الكاتب فيليب تايلور الطريقة التي اتبعها الملك الاشوري اشور ناصيربال الثاني، لمعاقبة المتمردين عليه، حيث يصف نقش على جدران قصر الملك الاشوري تلك الطريقة، بعبارة "لقد بنيت عمودًا تجاه بوابة المدينة، وسلخت جلود كل رؤساء المتمردين وغطيت العمود بجلودهم، وعلقت بعض الجلود في العمود والبعض ألقيتها فوقه وعلى العصي، والبعض علقت على الاسياخ من حوله، وسلخت الكثيرين داخل حدود ارضي، ونشرت جلودهم على الجدران، وقطعت اطراف الضباط والضباط الملكيين الذين تمردوا ضدي، اما اهيا بابا (قائد المتمردين) فقد اخذته الى نينوى، وسلخته هناك وعلقت جلده على جدران نينوى".
لم يعتمد الملك على إبراز قوته العسكرية فقط لإيقاف أي تمرّدٍ آخر، فقد كان بإمكانه قتل المتمردين بالسيف وانتهى الامر، من دون اتباع تلك الطرق، او حتى ذكرها ونقشها. فقد كان هدفه من النقش على جدران قصره بأن تكون شاهدة على مصير من يتمرّد عليه، حيث عمد الملك الى ترهيب الناس بالدرجة الأولى، وإخافتهم عبر ابتكار اساليب لا يمكن ان يتصورها عقل ذلك الزمن، وهنا الاساس، فعدم تصوّر العقل لتلك الطرق، يجعله امام صدمة تُعيق اي امكانية للتفكير في المواجهة، الامر الذي يمكن تداركه بالعودة الى قدرة الوعي والإرادة لديه.
استعراض طريقة القتل، والدعاية التي استخدمها الملك الاشوري في إيصال رسائله لأي تمرّدٍ محتمل، ليست لمناقشة الصراع الذي كان قائمًا في ذلك الزمن. فبعيدًا عن تحليل أحقية قتال الملك الاشوري للمتمردين عليه من عدمها، وبالعودة الى الفعل الإجرامي نفسه، ونقشه على جدران القصر، واذا ما أسقطنا ما قام به الملك الآشوري، مع اختلاف الزمن وتطور الوسائل الدعائية، على ما يقوم به "داعش" في أيامنا هذه، من ابتكار اساليب جديدة في القتل، وتصويرها وعرضها، فإننا سندرك أنّ تلك الطرق ليست للقتل فحسب، بل لها رسائل تفوق ذلك، موجهة الى المشاهد او القارئ، لا الى المقتول. انطلاقًا من هنا، تبرز أهمية الوعي عند المشاهد، في فهم تلك الرسالة، بما يليق مع معركته ضد "داعش" -على سبيل المثال لا الحصر- والكيفية التي سيبني عليها ردة فعله على الصورة، بالاستسلام لها، او بتحويلها الى محفّز لقتال هذا التنظيم المجرم، بالطرق والأساليب المتوفرة لديه.
وعليه، فإنّ مصيره من الناحيتين، "الانسانية" و"الوجودية" يعتمد على ردة فعله، فالاستسلام للخوف سيحوله الى تابع لتلك الجماعة او "الدولة"، ولو بطريقة غير مباشرة، لأنه وافق على مضمون الرسائل، وبرّر خوفه بها، حيث أنّ عقله لم يستوعب اهدافها، بل اكتفى بتجييش عواطفه بطريقة عكسية لا تخدم مصالحه الفردية، او مصالح المجتمع الذي ينتمي اليه، وسيبقيه خوفه جالسًا في انتظار الخطر القادم.
اما تحويل تلك الرسائل الى محفّز، سيعطيه ارادة في القتال، وايقاف الاجرام الذي يتبعه التنظيم، تلك الارادة هي المستهدفة في "الفيديو" او الصورة، ما يعني ان وجودها بسبب تلك "الدعاية"، بحد ذاته هزيمة لمن اراد استهدافها، في سبيل منعها من ان تكون أرضية لقتاله، لأنه يعلم أنّ مجرّد وجود الارادة يعني بداية هزيمته، وهنا تبرز الأهمية القصوى للوعي الفردي في فهم مضمون الرسالة. هذا الوعي الذي سينتج مجتمعًا لديه هيكلية مقاوِمة للقتال، تعتمد تلك الهيكلية على توزيع الادوار، بين العسكر، السياسة والاعلام. الامر الذي سيحصّن اي مجتمعٍ معرض لخطر تلك التنظيمات الارهابية، بالإضافة للهجمات التي يتعرّض لها، والتي تأتي في سياق الرسالة ذاتها، من حيث بث الرعب، عبر القيام بعمليات امنية، لا من خلال "فيديوهات" او صور يتم ارسالها.
خلال السنوات الاخيرة، وبالتزامن مع الحرب الاميركية غير المباشرة على المنطقة، لم توجِد الجماعات الارهابية المسلحة منظومات فكرية قابلة للإستمرار والتعايش، بين سكان المنطقة، والدليل على ذلك الانتكاسات العسكرية التي تتعرض لها تلك التنظيمات في معظم المناطق التي احتلتها سابقًا، لا سيما في سوريا والعراق، مع بدء اي هجوم عليها من قبل الجيوش وحركات المقاومة. اعتمدت تلك التنظيمات بشكلٍ أساسي، وبطريقة لا يمكن إنكار حرفيتها، على بث الرعب اينما حلّت، لإخضاع اي منطقة تصل إليها لسلطتها، لكن الرعب كان في خدمة تعبيد الطريق امام توسعها باتجاه المناطق الاخرى، أكثر من أي شيءٍ آخر. وهنا تبرُز اهمية الاستعداد المسبق لمواجهة هذا التوسع، بتلقف الرُّعب المُرسل بالطريقة المناسبة لضروريات المعركة القادمة. وفي السياق، نجد الفارق بين من استعدَّ للمعركة على كافة الصعد، قبل ان تصل اليه، وبين من وجد نفسه فيها، من دون اي استعدادات سابقة، بحيث ان هناك مرحلة مهمة جدًا، سبقته اليها الجماعات الارهابية، فأصبح بحاجة للحاق بتلك الجماعات، ومن ثم الالتحام المباشر معها.
الدروس والعبِر التي يجب استخلاصها من التاريخ القديم والحديث، في المعركة ضد الارهاب، عليها ان تكون في مقدمة الصراع الوجودي القائم، فالاستهزاء بـ"الدعاية" التي تعتمدها الجماعات الارهابية في الترويج لنفسها، لا يقل خطرًا عن الخوف منها والاستسلام لها، وهنا لا نتحدث عن الخوف الفطري الطبيعي لأي انسان، بل عن الخوف الذي يُعد هزيمة في مثل هكذا مواقف، كما ان الاستهزاء لا يعني عدم الخوف بل انه يأتي كنتيجة لعدم اخذ تلك الرسائل على محمل الجد، وفي الحالتين فإنّ الجماعات الارهابية، هي التي تكون قد تقدمت خطواتٍ اكثر الى الامام.
وفي جميع الأحوال، فإنّ الميدان هو الحاكم، والنصر فيه يكون لمن استعدَّ وجهّز نفسه ومجتمعه للأخطار القادمة، فأصبح في وضعية الدفاع والهجوم مع بعضهما، لإبعاد الأخطار والقضاء عليها، لا الدفاع فقط بعد ان وصلت تلك الاخطار الى أقرب نقطة منه، حينها سيكلّف الانتصار على الارهاب اكثر من النواحي البشرية، الاجتماعية، الثقافية والسياسية.
بيروت برس-عباس الزين