حقائق الصراع في مصر وأوهامه..بقلم: فهمي هويدي

حقائق الصراع في مصر وأوهامه..بقلم: فهمي هويدي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٥ يوليو ٢٠١٦

أن يلتبس الأمر علينا بحيث لا نعرف حدود وطبيعة المعركة التي نخوضها، فذلك يعني أن ثمة خللاً في الرواية يجب تصويبه.
(1)
صورة الشرطة وهي تطارد مظاهرة طلاب الثانوية العامة احتلت حيزاً كبيراً من الصفحة الأولى لجريدة «المصري اليوم» التي صدرت في 6/30. ولأن مواقع التواصل الاجتماعي تداولتها وعممتها مع تعليقات مختلفة على خروجهم احتجاجاً على تأجيل الامتحانات بسبب تسريبها، فقد أدى الشحن والتجاذب إلى ظهور مصطلح «تنظيم الثانوية العامة»، وليس معروفاً مصير الطلاب الذين أُلقي القبض عليهم بعد المطاردة الأمنية لهم التي أشارت إليها الصحيفة، لكننا لا نستطيع أن ننسى أن عشرات المتظاهرين السلميين الذين خرجوا مثلهم احتجاجاً على موضوع الجزيرتين، أطلق عليهم أيضاً «تنظيم الأرض»، وهؤلاء صدرت ضدهم أحكام عدة تراوحت بين السجن والغرامة والبراءة. ولا أعرف إلى أي مدى يمكن أن نأخذ على محمل الجد قصة المجموعة التي قيل إنها استجلبت بعض أسماك القرش لإطلاقها في المياه المصرية لطرد السياح وشل حركة السياحة، لكني وجدت الخبر متداولاً على العديد من المواقع خلال اليومين الأخيرين. بالقدر ذاته، لم تكن مقنعة الأخبار التي نشرت في وقت سابق عن إلقاء القبض على مجموعة أو تنظيم تشكل للمضاربة على الدولار في السوق السوداء. وفي حين بدا ذلك إجراء استهدف إيقاف المضاربة، فإننا وجدنا أن الدولار الذي كان يعادل سبعة جنيهات مصرية آنذاك واصل ارتفاعه بعد ذلك حتى وصل إلى 11 جنيهاً في الوقت الراهن.
لست في وارد التثبت من دقة تلك المعلومات، لأن دلالتها هي التي تعنيني. أعني ما همّني فيها هو تعدد الجهات والاشتباكات التي أصبحت السلطة طرفاً فيها. وإذ بدت عملية ترحيل الإعلامية ليليان داود نموذجاً أخيراً لحملات أجهزة السلطة، إلا أنها تظل واقعة استثنائية لا تخلو بدورها من دلالة. ذلك أنه ما كان يخطر على أحد أن تنشغل الدولة المصرية بكل جلالها بمعركة التخلص من إعلامية في إحدى القنوات، بحيث تضع خطة انقضاض سريع لترحيلها خارج البلاد فور انتهاء عقدها، والتفاصيل التي ذكرت في هذا الصدد صورت المهمة كأنها عملية «كوماندوس» بمقتضاها تم اختطاف السيدة من بيتها خلال دقائق واحتجازها في مكان مجهول لساعات عدة، ثم وضعها على أول طائرة متجهة إلى بيروت.
(2)
حين يحاول المرء رصد الاشتباكات التي خاضتها السلطة خلال العام الأخير، سيلاحظ أنها توزعت على جهة عريضة شملت مجالات عدة. إذ إضافة إلى مظاهرات طلبة الثانوية العامة ومظاهرات الأرض، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل ما سُمّي بمظاهرات «مجموعة 25 يناير» و «6 أبريل» وموظفي الخدمة المدنية وحملة الماجستير والدكتوراه وأمناء الشرطة وعمال الترسانة البحرية، ذلك طبعاً غير الاشتباكات الحاصلة مع نقابة الصحافيين والمحامين، وقبلهما نقابة الأطباء، أما اشتباك السلطة مع منظمات المجتمع المدني فقد اتخذ أشكالاً متعدّدة. منها إغلاق بعض المنظمات أو إحالة نشطاء منظمات أخرى إلى المحاكمة بتهم مختلفة أو مصادرة أموال البعض ومنعهم من السفر.
الملاحظة الأساسية على هذه القائمة أنها تشمل العديد من مكوّنات المجتمع المدني وتستهدف المستقلين والمخالفين والمعارضين، الأمر الذي يسوّغ لنا أن نقول إن أغلب ــ إن لم يكن كل مظاهر النشاط المجتمعي ــ أصبحت مستهدفة، ومن ثم معرّضة لكل ما يخطر على البال صور القمع والتنكيل. وللأسف فإن النصوص القانونية الفضفاضة تتيح فرصة إنزال مختلف صور العقاب بأصحاب الرأي الآخر. إذ ما أيسر أن يُتهم أي مواطن بتكدير السلم الأهلي أو ترويج أخبار كاذبة أو التحريض على مؤسسات الدولة أو الدعوة إلى التظاهر أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو إلحاق الضرر بالبيئة أو عرقلة السلطات العامة.. إلى آخر الاتهامات التي فصلتها المادة الثانية من قانون الإرهاب على نحو يتعذر افتراض البراءة فيه.
إذا صح ذلك التحليل فهو يعني أن معركة النظام المصري في الوقت الراهن لم تعد مع الإسلام السياسي الذي تمثل في «الإخوان» ومن لفّ لفهم، حيث الكتلة الأساسية لهؤلاء جميعاً مودعة في السجون. وبصورة نسبية فبوسعنا أن نقول إن هذه المعركة حسمت في بر مصر لصالح السلطة التي هي الطرف الأقوى في المعادلة. أستثني من ذلك شبه جزيرة سيناء، الذي لم يحسم الأمر فيه بصورة نهائية، لأن جولات الاشتباكات المسلحة التي تستهدف وحدات الجيش والشرطة لم تتوقف في تلك الرقعة خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
لا نستطيع أن نهوّن من شأن ما يجري في سيناء بطبيعة الحال. فسكان المنطقة أهلنا ورجال الجيش والشرطة أبناؤنا وجميعهم أعزاء علينا لهم علينا حق الكرامة وحقن الدماء. إلا أننا نقرر على صعيد التحليل أن الوضع الأمني هناك، وإن أصبح أقل سوءاً مما سبق، مختلف عنه في محافظات الدلتا وصعيد مصر، وأن الاشتباك مع منظمات المجتمع المدني وأنشطته في تلك الساحات هو موضوع المواجهة في الفضاء المصري. إلا أن المعركة الحقيقية تجاوزت تلك الدائرة، بحيث تمثلت في إدارة الأزمات الكبرى التي تواجه المجتمع، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية.
(3)
إزاء ذلك يغدو مبالغة غير مبررة القول بأن مصر في معركة مع الإرهاب، الأمر الذي يستدعي تأجيل الإصلاح السياسي وغض الطرف عن التجاوزات والتوسع في الإجراءات الاستثنائية والمحاكمات. أقول ذلك لأني سمعت هذه الحجة على لسان أكثر من مسؤول، كما أن الفكرة تُطرح باستمرار في وسائل الإعلام باعتبارها واقعاً نعيشه وحقائق مسلَّمًا بها. ومن المفارقات أن الذين يتبنون الفكرة يعتبرون ترديدها وفاء لدماء شهداء الجيش والشرطة، ويردون على مغايريهم في ذلك بأنهم يفرّطون بدماء أولئك الشهداء. ووجه المفارقة هنا يكمن في توظيف دماء الشهداء لإسكات الأصوات الداعية للإصلاح. وتبرير الاستثناءات والتجاوزات يُعدّ نموذجاً للتغليط المعرفي والتدليس السياسي. إذ عندما نطلق دعوة الحرب ضد الإرهاب في عموم البلاد، بينما بقايا العنف مقصورة على سيناء، وما يحدث في بقية أنحاء البلاد يُعدّ من قبيل التجاذبات والمناكفات التي سبقت الإشارة إليها، فإن ذلك يعد ابتذالاً لدماء الشهداء واتجاراً بها.
لدى الباحثين وعلماء الاجتماع السياسي كلام كثير، ليس فقط حول الإرهاب الذي لا يختلف أحد على ضرورة مكافحته بقدره، ولكن أيضاً عن التطورات التي طرأت على توظيف المكافحة واستخداماتها. إذ تبين أنه في ظل الأنظمة غير الديموقراطية أصبح الإرهاب بمثابة العنوان الأنجح والأكثر قبولاً لإسكات المعارضين وتصفيتهم. وهو ما حدث بتوسع ملحوظ في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001، حين أعلنت إدارة الرئيس بوش حربها العالمية ضد الإرهاب التي تلقفها كل صاحب مصلحة، واستثمرها على هواه. وكانت النتيجة أن كل نظام في تلك الدول اعتبر معارضيه إرهابيين. وبمضي الوقت إزاء التوسع في القمع والتصفية بدعوى مكافحة الإرهاب، اختصر البعض المشهد في عبارة «قل إرهاب وعلق المشانق».
(4)
إذا كانت أسطورة الحرب ضد الإرهاب لها أصل جرى تعميمه، فإن أسطورة إسقاط الدولة التي يلوح بها في ثنايا الخطاب السياسي باعتبارها خطراً محتملاً لا أصل لها ولا فصل. ذلك أن الدولة المصرية أكثر رسوخاً وأشدّ تماسكاً وصلابة، بحيث يتعذّر أن تهزّها ريح عابرة أو ممارسات عنف طائشة من أي نوع. فلا وجه للمقاربة مثلاً بين حوادث العنف أو المشاغبات التي شهدتها مصر خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وبين الزلزال الذي ضرب مصر جراء الهزيمة الساحقة التي لحقت بها في العام 1967، حين انكسر الجيش ودمّر طيرانه، ووصلت القوات الإسرائيلية إلى ضفاف قناة السويس، وبشهادة الرئيس عبد الناصر آنذاك فقد كان الطريق في الإسماعيلية والسويس مفتوحاً بلا جيش ولا مقاومة من أي نوع، بحيث كان بوسع الإسرائيليين أن يصلوا القاهرة بغير عناء. ومع ذلك فإن النظام المصري صمد ولم يسقط. وما حدث بعد ذلك في حرب 1973 فيه بعض شبه. ذلك أن الاختراق الذي أحدثه الإسرائيليون في «الدفرسوار» أدى إلى عبورهم القناة ومن ثم حصار الجيش الثالث، الأمر الذي جعلهم على بعد مئة كيلومتر من القاهرة. تشهد بذلك المباحثات التي جرت آنذاك عند الكيلو 101 على طريق القاهرة ــ السويس، هذا الاختراق بدوره لم يؤدّ إلى سقوط النظام والدولة. ذلك فإن الادعاء بأن بعض التفجيرات والمظاهرات أو انتقاد أداء بعض مؤسسات الدولة يمكن أن يسقط الدولة المصرية يتعذّر أخذه على محمل الجد ويعد إلى الهزل أقرب.
إذا وجدت في ما سبق تحريراً لخريطة الصراع الحاصل على أرض مصر، وتنقيحاً يميز بين حقائقه وأوهامه، فقد حقق الكلام مراده. إن شئت فقل إنها ملاحظات ومراجعات تعيد التفكير في المسار الذي نحن أحوج ما نكون إلى مناقشته بعيداً عن إكراهات وضغوط مدرسة الرأي الواحد التي اختزلت الدولة في النظام والمجتمع في قيادته. ذلك أن مصر شهدت خلال السنوات الثلاث الأخيرة تحوّلات جسيمة لها تأثيرها على المستقبل لعقود عدة. والمستقبل الذي أعنيه متجاوزٌ حدود مصر التي تبنت رؤى استراتيجية مغايرة أعادت ترتيب أولويات العمل الوطني والصراعات الإقليمية. وكانت النتيجة أن الأمور التبست علينا بحيث ما عدنا نعرف بوضوح ما هي المعركة الحقيقية، ولا من يكون عدو الداخل أو الخارج. ولأنها بتلك الأهمية، فإن مناقشتها وتصويبها أولاً بأول يصبح واجب الوقت وكل وقت. وتلك فريضة غائبة لأن أصوات الهرج والتهليل غلبت على أصوات المراجعة والتصويب. وذلك وجه آخر للأزمة جعل من المراجعة مغامرة مكلفة وغير مأمونة العاقبة.