انفتاح الأقوياء وانغلاق الأدعياء.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

انفتاح الأقوياء وانغلاق الأدعياء.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٧ يونيو ٢٠١٦

يخبرنا التاريخ أن (الحسين بن علي بن أبي طالب) لما عزم على المسير إلى الكوفة تلبية لما دعاه إليه العراقيون، نصحه كثير من أصحاب الرأي بعدم المسير بمن فيهم "حبر الأمة" ابن عباس الذي قال له: –بعد أن يئس من ثنيه عن المسير- إن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه. لكن الحسين لم يستجب؛ ثم سار بأهله وأولاده فقابله بالطريق (الفرزدق) الشاعر، فسأله الحسين عن خبر الناس فقال له: ((قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية)). ثم انتهى المسير بالحسين إلى قتله؛ وها هو الفرزدق الشاعر يقف بعد سنوات مع أناس كثيرين في الحج حول رجل بعينه، فمر الحاكم الأموي (الخليفة إذا شئتم) فلفت نظره تجمهر الحجيج حول ذلك الرجل، فسأل مستفسراً أو مستغرباُ: "من هذا؟" فالتقط الفرزدق السؤال وتوجّه نحو الحاكم الأموي بالجواب:
               "هذا الذي تعرف البطحاء وطأته                    والبيت يعرفه والحلُّ والحرمُ
                 هذا ابن خير عباد الله كلهم                          هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
                 إذا رأته قريش قال قائلها                            إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
                 وليس قولك من هذا بضائره                        العربُ تعرف من أنكرت والعجم".
استمع الخليفة الأموي للفرزدق ومضى في طوافه من دون أن يأمر بأي إجراءٍ ضده، كما أن أياً من المرافقين "الأمينين" للخليفة –على افتراض وجودهم- لم يشأ أن يتهمه بالتمذهب لآل علي باعتبار أن "الذي تعرف البطحاء وطأته" هو زين العابدين الذي تجاهله الأموي في سؤاله "من هذا؟"، حسب فهم الفرزدق لسؤال الأموي. فلو جرى مثل هذا الموقف لواحد من الأباطرة العرب أدعياء الشجاعة والانتصارات الخلبية، والجاثمين على صدور وأفئدة المواطنين أما كان زلزل بأسلحته المستوردة وأجهزته القمعية العشرات، بل المئات بل ال...., من أمثال الفرزدق وممدوحيهم؟!
وثمة مثل آخر في انفتاح الأقوياء وانغلاق الأدعياء –يتمثل هنا في هذه الأبيات التي جاهر بها نصراني تغلبي هو ( الأخطل) الشاعر، وفيها تجاوز ثم تعرض لكثير من الأعراف والقيم المجتمعية التي عليها الأغلبية العظمى من الناس؛ يقول الأخطل:
                " ولستُ بصائم رمضان طوعاً                   ولستُ بآكلٍ لحم الأضاحي
                   ولست بزاجر عيساً بكوراً                      إلى بطحاء مكة للنجاح
                   ولست بزائر بيتاً عتيقاً                           بمكة أبتغي فيه صلاحي
                   ولست بقائم بالليل أدعو                          قبيل الصبح حي على الفلاح
                   ولكني سأشربها شمولاً                           وأسجد عند منبلج الصباح".
هذا الشاعر ثالث ثلاثة هم جرير والفرزدق والأخطل عاصروا خليفتين وشهدوا مبايعة الثالث. الخليفتان هما عبد الملك والوليد، والخلافة التي شهدوا ميلادها هي خلافة (هشام بن عبد الملك) ولكن أياً من أولئك الشعراء الفحول لم يقرأ النشيد الوطني السوري الذي يقول:
                   "فمنا الوليد ومنا الرشيد                          فلم لا نسود ولم لا نشيد".
كما أن أياً منهم لم يسمع السيدة فيروز تنقل للناس ما قاله سعيد عقل في الشام. قال سعيد بصوت فيروز:
               "أمويون فإن ضقت بهم                          ألحقوا الدنيا ببستان هشام"
هذا الانفتاح أملاه الوعي وحققته القوة، فغدت الأصقاع على سعتها واتساعها ضمن بستان هشام ابن عبد الملك ومن ماثله في مسار التاريخ العربي البعيد والقريب. وهو المسار ذاته الذي أبقى الأخطل في صدر الديوان الأموي على الرغم مما قال، وهو الذي أبقى  - قبله- الفرزدق شاعراً أموياً عربياً من دون النظر إلى موقفه المعلن صراحة لغير الديوان الأموي!.