بين «الربيع العربي» و«الخريف الأوروبي»

بين «الربيع العربي» و«الخريف الأوروبي»

تحليل وآراء

الأحد، ٢٦ يونيو ٢٠١٦

فرنسا – فراس عزيز ديب
بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، لكي نفهم حجم الصدمة التي تعيشها الطبقة السياسية في بريطانيا من نتائج الاستفتاء، علينا العودة قليلاً إلى مطلع حزيران الحالي عندما قال رئيس الوزراء «ديفيد كاميرن» ساخراً من «أردوغان»: إن تركيا قد تدخل الاتحاد الأوروبي في العام 3000. هذه السخرية الصادرة عن رئيس وزراءٍ من المفترض أن بلاده تتحضر لاستفتاءٍ حول مصيرها في هذا الاتحاد تعني أنه واثقٌ من النتيجة، بل واثقٌ بأن الدور البريطاني في الاتحاد الأوروبي سيتصاعد، وربما ليشمل الانضمام للعملة الأوروبية المشتركة، لكن كما يقال في المثل العامي، حساب الحقل البريطاني لم يطابق حساب البيدر الأردوغاني، إذاً، ما هي الأسباب العملية لهذه النتيجة الصادمة؟
لكي نفهم جذور ما حدث وسيحدث بما يتعلق في الشأن الأوروبي، علينا العودة إلى بداية نشوء فكرة الأحزاب السياسية، لأن أحد أهم أسباب نشوء الأحزاب كفكرةٍ سياسية هو الانقسام في المجتمع، فعلى سبيل المثال: إن الانقسام بين المؤيد والرافض لدور الكنيسة في الحياة السياسية، أدى لنشوء أحزاب ذات خلفيةٍ دينيةٍ، وأخرى تفصل الدين عن السياسة، لكن الانقسام الأخطر كان الانقسام بين المركز والأطراف، الأمر الذي أدى لحدوث تضاربٍ ثقافي أدى تدريجياً لتنامي النظرة للتقوقع في الأقاليم من جهة، ونمو الفكرة القومية التي توصف باليمينية المتطرفة من جهةٍ ثانية، هذا الانقسام كان ولا يزال هو الهاجس الأكبر الذي يهدد أوروبا بالكامل، فكيف ذلك؟
مُنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، سعى الأوروبيون جاهدين للتخلص من تبعات الأفكار القومية المختلفة في دولهم. كانوا يروجون لفرضية أن دعاة الدولة القومية ومن ورِث الأمر عنهُم يجيدون إشعال النيران وبث الأحقاد، لكنهم لا يجيدون لغةً جامعةً لأبناء المجتمع المختلف الأعراق. تسلحوا في معركتهم ضد الفكرة القومية بوصمها تارةً بالفاشية وتارةً أخرى بالنازية، مستفيدين بذلك من الآثار السلبية والويلات الكارثية التي جرَّتهما هاتان التجربتان على العالم بأسره، ربما نجحت لحدٍّ بعيد من خلال تعويم مشروع الوحدة الأوروبية الرامي لمنطقة سلامٍ من دون حدود بتحجيم الأفكار القومية، فباتت الفكرة القومية في أي دولةٍ أوروبيةٍ بمثابة فزّاعة. أكثر من ذلك فإن المناهج الجامعية مثلاً عندما تتناول التجارب السياسية حتى خارج أوروبا فإنها تصف الزعماء الذين ينطلقون بأفكارهم من الشأن القومي بالمتطرفين والديكتاتوريين، أرادوا أن يستنسخوا أجيالاً عبارة عن مرددين لما يريدونه، فهل نجحوا في ذلك؟
لا يمكننا أبداً أن ننكر أن الأوروبيين تمكنوا من خلال فكرة الاتحاد الأوروبي من إنشاء «منطقة سلام» خالية من الحدود والعوائق الجمركية، والتي أدت للانتعاش الاقتصادي وتناسي آثار الحروب والدمار، على الرغم من أن كثراً لم يكونوا راضين عن هذه الفكرة وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي ربما أشعلت حرب يوغسلافيا في محاولةٍ منها لوأد المشروع قبل أن يكبر. لكن في الوقت ذاته فإن المتحمسين للمشروع الأوروبي والمدافعين عنه لم ينجحوا أبداً في إطفاء جمرة الأحزاب القومية الرافضة لمشروع الاتحاد الأوروبي كما فعلت مثلاً مع الأحزاب الشيوعية التي بالكاد لها صوت الآن في الدول المهمة في الاتحاد. إن هذا الفشل لا يمكننا ردُّه فقط للشعبية المتفاوتة للأحزاب القومية، لكن السبب الأساسي هو إخفاق الخطاب المقدَّم من المدافعين عن نظرية أوروبا واحدة، هذا من دون أن نتحدث عن الفرق الشاسع بين ما كُتب على الورق من معاهداتٍ وما يتم تنفيذه على الأرض. في الواقع فإن الاتحاد الأوروبي حوَّل الدول الصغيرة والمتوسطة وبعض «الكبرى» لمجرد توابع لما تريده كل من فرنسا وألمانيا، هذه الدول باتت أشبه بأعضاء مجلس الشعب؛ دورهم فقط الموافقة، مقابل ما يتلقونه من امتيازاتٍ خاصة من دون أن يكون لهم دور مهم في رسم السياسات، ليس لأن الدستور يمنعهم، بل لأنهم ارتضوا المهادنة حفاظاً على مصالح شخصية. هذا التغييب الكامل لهذه الدول أدى لعودة الروح لأصحاب النظرة القومية، ولنقارن مثلاً بين أهمية رومانيا زمن نظام تشاوشيسكو- على علاته- وبين رومانيا الحالية التي ربما لم يعد يسمع بها أحد إلا من خلال لاعبي كرة القدم.
النقطة الثانية: إنك لا تستطيع بشكلٍ عام أن تكذب طوال الوقت، فلابد للكذب أن يؤدي لتناقضات سيستغلها خصومك؛ ولكي تتضح الصورة أكثر، فإن القوميين في أوروبا يُتهمون دائماً بالفاشية والنازية، ويعيرونهم بالمجازر التي ارتكبها «هتلر» و«موسوليني»، لكن المقاربة بشكلٍ عام بدأت تتضح أكثر للشعوب، فعلى سبيل المثال؛ لماذا ذهب الفرنسيون وتورطوا بدماء الأبرياء في مالي وساحل العاج وليبيا؟ ما الفرق بين مجزرةٍ يذهب ضحيتها ألف شخصٍ أو مليون شخص؟ ثم من الذي تحالف مع دولةٍ قتلت في العراق وحده مئات الآلاف؟ هذه الأمور كلها كان يمكن أن تظلَّ في السبات، لكن مع وصول كذبة «ربيع الدم العربي» وما جرى ويجري في سورية على وجه الخصوص بات إخفاء هذه الحقائق هو ضربٌ من الجنون، ففي ظل أوروبا الموحدة فرنسا مثلاً لم تعد دولةً تابعة للولايات المتحدة (كنا سنصفق لها على الأقل أنها تابعة لدولة عظمى)، لكنها لم تعد قادرة حتى أن تعبِّر عن مواقفها أمام مشيخاتٍ كقطر وممالك متهالكةٍ كـ«آل سعود»، أي أن الطبقة السياسية الأوروبية باتت ترى مصالحها الشخصية أكثر من مصالح بلدانها، وإلا فهل هناك سبب يجعل فرنسا تدخل الحرب في ليبيا، غير أن نجل القذافي قال إن ساركوزي تلقى أموالاً لحملته الانتخابية!
هذا الانفجار كان متوقعاً، لكن هل هو فقاعةٌ ستنتهي؟
دائما مانكرر أننا أمام نقطة التقاء مصالح يمثلها التطرف الديني ويدفع ثمنها الأبرياء، هذا الأمر ولَّد مثلاً تحالفات بين «المحافظين الجدد» و«العدالة والتنمية»، بين «جبهة النصرة» و«الإخوان المسلمين» من جهةٍ و«إسرائيل» من جهةٍ ثانية. في أوروبا لا يبدو أن هناك مكاناً للتطرف الديني، لكن هناك مساحات فراغٍ واسعة سيملؤها التطرف القومي تحديداً، إن خطابهم المنطلق من فرضية حماية الجذور، وإن استعادة المكانة يبدأان من العودة للنظرية القومية التي تحمي البلاد من كل الأخطار، حتى ما يُحكى عن فرضية «كره الإسلام» يجيبون عليها ببساطةٍ بأنهم ضد «الأسلمة» وليسوا ضد «الإسلام»، وهذا الأمر ببساطةٍ تجده حتى في مجتمعاتنا التي ذاقت ما ذاقته من خلال «وهبنة» الشريعة بدلاً من الحديث عن جوهر الإسلام السمِح. الفكرة فيما يبدو عابرةٌ للحدود، والهروب باتجاه اليمين يبدو أنه الصبغة القادمة لمرحلة التحولات السياسية في العالم، فمن يظن أن «دونالد ترامب» هو ظاهرةٌ صوتية وأن خطابه لا يحمل في بعض تفاصيله نزعةً إيجابية سيتلقفها الناخب مستقبلاً هو كمن يعيش في وهمِ أن أميركا قدرٌ لا ينتهي، والغريب أن البعض يبحث عن السلبيات في «خطاب ترامب» الذي لم ينفِّذ منه شيئاً بعد، على حين يتجاهل ما اقترفته هيلاري كلينتون وما تورطت به من مجازر منذ بداية ربيع الدم العربي. هذه المقاربة لا تعني بالضرورة تفضيلنا لأحدٍ على آخر، لكن هو لتبيان السلبيات والإيجابيات في كل الأطراف، فـ«دونالد ترامب» ليس حالةً عابرة وما حدث في بريطانيا ليس مفصلٌ تاريخي بل هو بداية الانعطاف نحو التحولات الجذرية، لأن المشكلة الآن لا تبدو بمن سيحكُم، المشكلة تبدو بإمكانية حدوث التصادم بين اليمين من جهةٍ وبين باقي الفئات إضافة إلى المهاجرين من جهةٍ أخرى. لكي تتضح الصورة أكثر علينا ألا ننتظر فقط ما ستنتج عنه الانتخابات الأميركية القادمة، لكن علينا انتظار ما هو أهم على الساحة الأوروبية وهو انتخابات الرئاسة الفرنسية 2017، ماذا لو نجحت «ماري لوبن» والتي تشير استطلاعات الرأي إلى أنها حكماً ستعبر الدور الأول. وعليه يمكننا القول إن هذه الانتخابات ستكون مصيرية في حياة الاتحاد الأوروبي كاملاً، لأن نجاح «ماري لوبن» سيبدل وجه أوروبا بالكامل وإذا كان البعض قبل أيام يستبعد إمكانية الخلخلة في الاتحاد الأوروبي، هو اليوم بات يبحث عن إمكانية الخلخلة بدولٍ بحد ذاتها؛ ماذا لو انفصلت إسكتلندا؟ الأسئلة باتت كثيرة ومشروعة، بل الأهم فيما يجري أنه لم يعد هناك من سؤالٍ ليس منطقياً أو مثيراً للسخرية، فـ«إسرائيل» ترأس لجنةً قانونية للأمم المتحدة، و«آل سعود» يدافعون عن حقوق الإنسان، فما المشكلة إن رأينا يميناً متطرفاً يحكم أوروبا! ربما هو ما سيحدث، فالجنون لا يجر إلا الجنون، وعليه:
لا يجب علينا التعاطي مع هذا الحدث بشيءٍ من التبسيط، نحن أمام حالةٍ متقدمة من التحولات السياسية الدولية، وأول سؤالٍ يجب أن يُطرح: أين نحن منها؟ فالبديل عن الواقع الحالي بالنسبة للسياسات الأوروبية ربما لا يقل سوءاً، وعلى مستوى تحالفاتنا؛ لم تتكرس حتى الآن حالةٌ جامعةٌ يمكن البناء عليها مستقبلاً، ولنتذكر أن الصين قبل أيام عارضت انضمام طهران لـ«منظمة شنغهاي»… أياً كان التبرير، لكنه حدثٌ يستحق الوقوف عنده.