أربعة مشاهد من الداخل الروسي.. بقلم: هاني شادي

أربعة مشاهد من الداخل الروسي.. بقلم: هاني شادي

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٤ يونيو ٢٠١٦

يعجُ الداخل الروسي هذه الأيام بالعديد من المشاهد اللافتة للنظر نتيجة ارتباطها بالأجواء الخارجية المُحيطة بموسكو، وأيضاً نتيجة سياسة روسيا في جوارها القريب والبعيد. وأول هذه المشاهد تجلّى خلال «منتدى بطرسبورغ» الاقتصادي الدولي في نسخته العشرين، التي عُقدت قبل أيام، عندما حاول الرئيس فلاديمير بوتين «تسييل لُعاب» رجال الأعمال الغربيين والحكومات الغربية بالحديث عن أن بلاده ستواصل عملية «لبرلة» الاقتصاد الروسي وحماية الاستثمارات الأجنبية وتشجيعها، وبالحديث عن تحسن أداء الاقتصاد في الفترة الأخيرة. هذه المحاولة ترتبط أيضاً، في غالب الظن، بموجة الخصخصة الجديدة في روسيا، التي ستشمل شركات روسية كبيرة مملوكة للدولة كُلياً أو جزئياً. ولعل هدف بوتين من وراء هذا الحديث البراغماتي تعلّق بإمكانية أن يُراجع الاتحاد الأوروبي موقفه من روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، ويعمل على إلغاء العقوبات أو التخفيف منها. ولا يخفى أن صفوف الاتحاد الأوروبي غير مُوحّدة نسبياً تجاه هذه العقوبات، وأن بوتين برع، ولا يزال، في «اللعب» على هذا الوضع داخل الاتحاد. ومن تجليات هذا «اللعب» مد الجسور مع أحزاب اليمين الأوروبي، بما فيها اليمين الراديكالي، والتي لا ترغب في استمرار الاتحاد الأوروبي في الوجود، كما تشير مصادر روسية وغير روسية. بجانب ذلك، لا يُخفي رجال الأعمال الأوروبيون، الذين شاركوا في «منتدى بطرسبورغ» الاقتصادي، تململهم من العقوبات المفروضة على روسيا وتحذيرات واشنطن لهم ولرجال الأعمال الأميركيين من الاستثمار في الاقتصادي الروسي أو المشاركة في موجة الخصخصة الروسية الجديدة. فالاقتصاد الروسي ليس وحده الذي تضرّر من العقوبات الغربية، وإنما تضرّر كذلك قطاع الأعمال الأوروبي من العقوبات الروسية الجوابية. ولكن المصادر الأوروبية تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي قرّر، على مستوى السفراء، تمديد العقوبات على روسيا لمدة ستة أشهر أخرى، تمهيداً لإقرار هذا الأمر على مستوى الوزراء الشهر المقبل. وهذا، على ما يبدو، دفع بالرئيس الروسي إلى رفع نبرة خطابه مجدداً، في 22 حزيران الجاري خلال كلمة له أمام مجلس الدوما، واصفاً توسّع حلف «الناتو» وحشد المزيد من قواته قرب الحدود الروسية بالسياسة «العدوانية»، التي ستتطلب من بلاده إجراءات جوابية.
لقد ارتبط بالمشهد السالف مشهد آخر في الداخل الروسي تمثل في إجراء تفتيش ومناورات مفاجئة لبعض قطاعات الجيش الروسي في 17 حزيران الجاري، رداً على مناورات «حلف شمال الأطلسي» مؤخراً في بولندا ودول البلطيق. وكان اللافت في هذه المناورات مشاركة العسكريين الروس الاحتياط فيها، وكأن روسيا، بحسب البعض، لا تستبعد الحرب في ظل استفزازات واشنطن وحلف «الناتو» لها. في غالب الظن، مثل هذه الحرب لن تقع، ولكن هذا لا يمنع الاستعداد لها وإظهار «العضلات» العسكرية الروسية، كما تُردّد وسائل إعلام روسية. فالأجواء مشحونة بالفعل داخل الرأي العام الروسي تجاه «الناتو» والولايات المتحدة. وسيزداد هذا الشحن كلما اقترب موعد قمة «حلف شمال الأطلسي» الشهر المقبل وما سيتمخض عنها بشأن التعامل مع روسيا من نشر قوات أطلسية إضافية في بولندا ودول البلطيق الثلاث، لاتفيا وليتوانيا واستونيا، مطلع العام المقبل. في هذا السياق، ووفق استطلاع لـ «المركز الروسي لدراسة الرأي العام»، نجد أنفسنا أمام مشهد ثالث، يقول لنا إن 65 في المئة من الروس على استعداد لإرسال أبنائهم وأقاربهم إلى الجبهة في حال اشتعال الحرب مع أي دولة مجاورة. ويُبين هذا الاستطلاع أيضاً أن 56 في المئة من الروس مستعدون للتخلي عن قسم من مداخيلهم للدولة لمساعدتها في مثل هذه الحرب، على أن يسترجعوها بعد ذلك. ويُشير المركز إلى أن مستوى الشعور بالوطنية مرتفع لدى 80 في المئة من المشاركين في الاستطلاع، بينما لا يشعر بهذه الوطنية 18 في المئة فقط. ويرتبط هذا بقوة مع أحداث القرم العام الماضي، وبالسياسة الإعلامية المُوجهة لرفع الشعور الوطني في روسيا. فهذا الشعور، كما يرى منظرو الكرملين، يضمن استمرار النظام السياسي القائم واستقراره، ويحصّنه من «أعداء» الداخل والخارج، برغم الأزمة الاقتصادية وتراجع مستوى المعيشة نسبياً.
المشهد الرابع والأخير، وهو لا ينفصل عن المشاهد السابقة، يتعلق بإقرار مجلس الدوما الروسي الأربعاء الماضي، وخلال دقائق معدودة، لقانون بتشكيل قوات «الحرس الوطني» في قراءته الثالثة والأخيرة. وكان الرئيس فلاديمير بوتين في نيسان 2016، قد أصدر مرسوماً لتشكيل هذه الهيئة الأمنية الجديدة على قاعدة قوات الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية الروسية، وعيّن قائد قوات الأمن الداخلي الروسية، فيكتور زولوتوف، رئيساً لهذا الحرس الوطني. علماً بأن زولوتوف شغل في الفترة من 2000 وحتى 2013 منصب قائد جهاز أمن الرئيس الروسي وحمايته، وهو من المقرّبين منه منذ أن عمل بوتين نائباً لعُمدة مدينة بطرسبورغ مطلع تسعينيات القرن الماضي. وبحسب القانون الذي أقرّه مجلس النواب الروسي، سيتولى «الحرس الوطني» قائمة طويلة من المهام، على رأسها محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة وحماية النظام العام والتصدّي للاحتجاجات وحماية المنشآت الحيوية وغيرها. ولعل أهم ما يلفت النظر في القانون المذكور أنه سمح، بحسب صحيفة «كوميرسانت» الروسية، لـلحرس الوطني بإطلاق النار لفض التظاهرات والاحتجاجات، والتي تُسمى في القانون بـ «أعمال الشغب».
هذه المشـــاهد الأربعـــة قد تُعطـــي صورة مُقرّبة لما يدور في الداخل الروسي من أحداث في الأيام الأخيـــرة، وهي مرتبطة بما يجري حول روسيا وبمدى الانزعاج من تحركـــات المثلث المكوّن من الاتحاد الأوروبي و «الناتو» والولايات المتحـــدة. بجانب التوجس، كمــــا يرى البعض، من اضــطرابات داخلية قبل الانتخابات البرلمانية في أيلول المقبل أو بعدها.