هل انتهى العرب؟.. بقلم: سامي كليب

هل انتهى العرب؟.. بقلم: سامي كليب

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٥ يونيو ٢٠١٦

السفير
يكفي ان تكتب اليوم مفردات من نوع «عرب» او «عروبة» على فايسبوك وتويتر او في أي مقال ومقام، حتى تنهال الشتائم وتفوح روائح الشوفينية العفنة من كل حدب وصوب. يكفي أن تكتب «فلسطين» او «قضية»، حتى يسارع كثيرون من دول «مقاومة وممانعة» او من أخرى «معتدلة» للتأكيد على أن الأولوية هي لبلادهم وليس لفلسطين. يصل حال البعض منهم الى درجة تمني انتصار إسرائيل على «حركة حماس» لأنها باعتقادهم تورطت بالحروب العربية كرمى لعيون الاخوان المسلمين.
اذا كانت ثمة مؤامرة فعلية على الوطن العربي الكبير، فهي نجحت بامتياز. تفكك العرب. تقاتلوا. تشاتموا. بعضهم ينوء تحت التقسيم الجديد، وأفضلهم يشارك، وعلى الأرجح دون ان يدري، في رسم خرائط تقسيم وحدود جديدة. هذا يبيع نفسه لتركيا وذاك لإيران وثالث لإسرائيل ورابع للغرب وخامس لروسيا وسادس للجميع.
الدولة العربية التي تنجح في جذب دول عربية او اجنبية الى جانبها، فإنما للقضاء على عربي آخر كان بالأمس القريب «شقيقا». أما فلسطين، فهي تودع آخر ما بقي من أرضها غير المستوطنة. لا أحد يأبه لحالها ولا لحال فتية بعمر الورود أوصلهم يأسهم الى حد استلال سكين لطعن مستوطن او جندي. يعلم هؤلاء الفتية الورود علم اليقين بأنهم بعد الطعنة سيصبحون جثة في العراء... ما عادت كلمة شهيد تليق بهم على بعض الشاشات. وأما مخيمات الشتات، التي تنتقل من القهر وشظف العيش الى أسواق النخاسة بين الفصائل القديمة والجديدة والعلمانية والتكفيرية، فانها لا شك تساهم (كما ساهمت قمم عربية قبلها) في مؤامرة انهاء حق العودة، بعد ان فقدت طويلا حق الحياة في كثير من الدول. لا يوازي ذل العيش في مخيمات لبنان مثلا، سوى خطأ اعتقاد القيادة الفلسطينية يوما ما بأن دولا كلبنان او الأردن يمكن ان تصبح البديل. ولو جاهر شخص بحبه للمقاومة اليوم، فالرئيس محمود عباس نفسه يزجره لأنه لا يزال مؤمنا بـ «السلام» الذي لم يَحْمِ شجرة زيتون ولا أوقف سرطان المستوطنات .
ربما حان الوقت لقراءة نقدية جذرية لهذا التاريخ العربي. تراكمت الأوهام على الأوهام. ما كان العرب موحدين أصلا في أي مرحلة من تاريخهم الحديث. هم في أصعب مراحل الانتقال من أنظمة الاستعمار والانتداب الى دول مستقلة او شبه مستقلة، كانوا يتنافسون ضد بعضهم على موائد بريطانيا وفرنسا، لا بل وإسرائيل (حين كانت غولدا مائير ترسل حقائب المال لهذا الحاكم او ذاك)، ثم انتقلوا للتناهش على مائدتَي اميركا والاتحاد السوفياتي حين صارت واشنطن وموسكو تقودان العالم كل منهما باتجاه.
انبرت أحزاب عروبية وبعثية وقومية واشتراكية تقدم العروبة على طبق من الأوهام لشعوبها. تحولت الأحزاب او جلها، الى أداة لقمع العرب والعروبة وخنق الأصوات. صارت العروبة مطية يركبها الحاكم ضد شعبه حين يريد، ويوظفها في تجارة المصالح مع هذه الدولة او تلك. وانتفخت بطون الحزبيين وكبرت سياراتهم والجشع وضعفت العقول والارادات.
حين اندلعت الثورات العربية الحديثة في ما سمي بـ «ربيع العرب»، استبشر البعض خيرا بوجوه عروبية ويسارية وقومية خرج بعضها من السجون او نفض بعضها الآخر غبار الغربة والمهجر عنه. لكن سرعان ما ارتمت هذه الوجوه في أحضان من قتلوا العروبة وأهلها تاريخيا وحديثا... هذا باع نفسه للغرب وذاك لتركيا وثالث لإسرائيل. فوتت المعارضة السورية أفضل فرصة لتقديم نموذج عربي نهضوي صحيح، فوأدت نفسها بعيد ولادتها.
ها هي القوميات والعصبيات والهويات القاتلة تستعيد الوجه البشع لحروب الجاهلية بين داحس والغبراء او البسوس (لنتذكر أن مجازر العرب آنذاك كانت بسبب حصانين هما داحس والغبراء بعد الغش في سباق الفرس).
حين تموت الأفكار الكبرى الجامعة، تنتعش القوميات. حين تموت الأفكار، تنبعث الغرائز القاتلة. ما كادت الجزائر تغرق بعشريتها السوداء او الحمراء (تيمنا بعشر سنوات الحرب منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد إلغاء الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية التي فاز فيها اسلاميو الجبهة الإسلامية للانقاذ)، حتى صاح بعض الأمازيغ (او البربر كما يعرفهم اهل الشرق) بأنهم ليسوا عربا. ذهب بعضهم الى حد المطالبة بالانفصال. نسي هؤلاء تاريخا مجيدا للامازيغ في حرب الاستقلال وبطولات أهلهم ضد المستعمر الفرنسي. ما ان تفكك العراق بعد اجتياح الكذبتين ضده من اميركا وبريطانيا (كذبة أسلحة الدمار الشامل وكذبة ارتباط صدام حسين بالقاعدة)، حتى جاهر كرد العراق بإقامة الدولة في الشمال ذات العلاقات الممتازة مع تركيا وإسرائيل، وارتمى الجنوب في الحضن الايراني وضاع ما بينهما. هذه كانت ايضا حال جنوب اليمن الذي وإن كان اهله محقّين في الابتعاد بسبب ظلم الشمال لهم في فترات متعاقبة، الا أنهم ظلموا بعضهم اكثر حين كانت الشيوعية في عقر دارهم. ارتكبوا مجازر ضد بعضهم البعض يندى لها الجبين (لنتذكر مجزرة الحزب الاشتراكي عام ١٩٨٦). أما جنوب السودان الذي انفصل بخيراته الهائلة (١٢٨ مليون رأس ماشية، ٨٠ في المئة من الثروة النفطية، مئات آلاف الهكتارات الزراعية، ٧٠ نهرا... ألخ)، فان السبب الاول لانفصاله هو تخلي العرب عنه، إضافة الى وهم الدكتور الراحل حسن الترابي وصحبه في تصدير الإسلام اليه وعبره الى افريقيا.
لنعترف بأن كل هذه الموجات التكفيرية والارهابية ما كانت لتخترق مجتمعاتنا ونفوسنا وقلوبنا، لو كان عندنا انتماء عروبي صحيح، ولو كانت الدول التي قامت على أساس العروبة حصنت شعوبها بالتنمية والحرية والأفكار الصحيحة. لا أحد يخترق بسهولة بيتا من حديد وحجر، اما بيوت الزجاج فتخترق وتكسر وتسحق. لا نلومن هذه الدولة او تلك، او هذه الامة او تلك، فالمصيبة فينا، والآفة عندنا، نحن شرّعنا الأبواب للجميع. لماذا نجح الشيخ محمد بن راشد في تحويل الرمال الى افضل الدول حداثة وانفتاحا ورفاهية وسعادة في امارة دبي، بينما تحول لبنان مثلا من جنة الى مزبلة تقتل ناسها؟
الآن، وفيما الحرائق تأكل الدول العربية واحدة بعد الأخرى، وفيما الامم في الجوار، والدول في البعيد، والكيانات المصطنعة مثل اسرائيل تنتشي لما يصيب العرب والعروبة، او تستفيد من كل هذه الدماء المجانية، أليس حريا بنخب هذه الأوطان العربية المتناهشة، وبحكماء وعقلاء العرب مسلمين ومسيحيين وعلمانيين أن يفكروا بكيفية وقف سيل الدماء أولا، ثم الاتفاق على مشروع نهضوي عربي جامع يحتضن الجميع فيصبح فيه العربي والكردي والاشوري والسرياني والكلداني والايزيدي والشيعي والسني والدرزي والكاثوليكي والبروتستانتي وغيرهم متساوين في الحقوق والواجبات؟
الوطن العربي تفكك واحترق. اللغة العربية صارت مثاراً لخجل جيل بكامله. ما عاد يستخدمها هذا الجيل مطلقا عبر أحدث وسائل التواصل الاجتماعي. تحولت ساحاتنا اما لبيع السلاح، او لاستيراد الإرهاب، او الى حقل تجارب جغرافية وعسكرية وبشرية وطبية...
هل ثمة من لا يزال يرى ويسمع ويفكر في هذا الوطن العربي الذي يحترق من محيطه الى الخليج بأوهام جديدة تجدد أوهام الجاهلية؟ هل ثمة من هو قادر على اجتراح مشروع جدي اليوم، أم ان علينا دفن العرب والعروبة الى غير رجعة؟
هل انتهى العرب؟