تقرير من تركيا.. بقلم: فهمي هويدي

تقرير من تركيا.. بقلم: فهمي هويدي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٤ يونيو ٢٠١٦

لا يسرنا استمرار توتر العلاقات بين مصر وتركيا، وربما كان الوقت مناسباً الآن لفتح الملف وإعادة النظر في حساباته وعناوينه.
(1)
أجواء إسطنبول في العام 2016 تذكرنا بمصر الستينيات، التي صورها الصح في الفرنسي إريك رولو في كتابه عن كواليس الشرق الأوسط الذي ترجم إلى العربية حديثاً. ذلك أنه كان مفتونا بكم اللاجئين السياسيين العرب الذين وجدوا في القاهرة آنذاك ملاذا لهم. وحين شارك في مجالسهم وأحاديثهم الليلية، فإن ذلك مكنه من التعرف على صورة حية ومفصلة لواقع العالم العربي من خلال استماعه إلى أحدث أخباره وأسراره. الظاهرة ذاتها يلاحظها زائر إسطنبول هذه الأيام، إذ يجدها تعج باللاجئين السياسيين القادمين من مختلف أنحاء العالم العربي، مضافا إليهم آخرون من دول آسيا الوسطى التي تتحدث اللهجات التركية، وصولاً إلى «الويغور» سكان تركستان الشرقية التي ضمتها الصين في خمسينيات القرن الماضي وغيرت اسمها إلى مقاطعة سينكيانغ. هؤلاء يصادفهم الزائر ويرى وجوههم في كل مناسبة عامة، فضلاً عن الفنادق والمقاهي والمطاعم والأسواق.
حضرت في إسطنبول مؤتمرا لمنتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال الذي وجد منظموه أن تركيا أكثر أقطار المنطقة ترحيباً به، ووجدت أن مسؤول الاستقبال وكذلك صاحب شركة سيارات الانتقال مصريان، والسائق الذي رافقني كان سورياً، والمنظمون كانوا شباباً من فلسطين. وفي الفندق صادفت سياسيين ليبيين ويمنيين وجزائريين وسوريين وتوانسة وعراقيين وخليجيين، واكتشفت أفغانيا جاء ليتاجر في العقارات بعدما سمع عن النهضة العمرانية في المدينة.
صخب المؤتمر كان قطرة في بحر الضجيج الذي لا تهدأ وتيرته في إسطنبول على مدى اليوم. ليس فقط لأن سكانها المقيمين 16 مليوناً، ولكن لأن المدينة مترامية الأطراف تتحول إلى خلية نحل يتحرك فيها الجميع ويركضون طوال النهار، التجار والصناع والسياح والمتظاهرون والدراويش وباعة السميط والزهور وأوراق اليانصيب. وإذ يكاد المرء يصاب بالدوار وهو يرقب تلك الحيوية الطاغية، فإنه يجد فيما يراه مصداقاً لما ذكره مكتب الإحصاء الأوروبي ومؤسسة الإحصاء التركية من أن تركيا أحرزت المركز الأول في أوروبا في النمو الاقتصادي خلال الربع الأول من العام الحالي، بتحقيقها نمواً بلغت نسبته 4,8 في المئة. وبذلك تقدمت على السويد ورومانيا ــ أكبر منافسيها ــ إذ حقق كل منهما نمواً بنسبة 4,2 في المئة. علما بأن معدلات النمو في الاتحاد الأوروبي (28 دولة) ومنطقة اليورو (19 دولة) بلغت على التوالي 1,8 في المئة و1,7 في المئة في الفترة ذاتها.
(2)
تركيا في الاقتصاد غيرها في السياسة والإعلام. والوجه الأول يدركه الأتراك جيداً، لكن الوجه الثاني هو الذي تراه الغالبية في الخارج. والطفرة الاقتصادية الكبيرة التي تحققت في ظل حكومة حزب «العدالة والتنمية» التي تدير البلاد منذ العام 2002 تمثل الرصيد القوي الذي تستند إليه شعبية الحزب وقيادته المتمثلة في الرئيس رجب طيب أردوغان. ذلك أنها أدت إلى مضاعفة الدخول مرتين خلال 10 أعوام، بحيث أصبح متوسط دخل الفرد 17 ألفا و500 دولار في العام. وبمقتضاه أصبحت تركيا بين الدول العشر التي شهدت ثورة صناعية. كما صنفت 4 من مدنها ضمن العشر الأسرع تطورا في العالم (المدن هي إسطنبول وبورصة وأزمير وأنقرة ــ وبحسب تقرير معهد «بروكينغز» في واشنطن الذي أجرى الدراسة، فإن إسطنبول صنفت في المرتبة الثالثة في حين احتلت المرتبة الـ52 في تقرير المعهد عن العام 2013).
يشهد الزائر مظاهر تلك الطفرة في مختلف مظاهر العمران والحياة بالمدن التركية التي تتغير معالمها عاما بعد عام. أما مدينة إسطنبول التي أعرفها أكثر من غيرها فيتغير وجهها أكثر من مرة خلال العام، بحيث تزداد فتنة وابداعا، برغم حدة الصراعات وشدة التجاذب على أرضها بين القوى السياسية المختلفة.
الصعود المشهود في مؤشرات الاقتصاد يتفوق على مؤشرات السياسة. ذلك أن الصراع المحتدم بين مكونات الطبقة السياسية الحاصل في البرلمان، والذي تعبر عنه وسائل الإعلام وقنوات التليفزيون، أصبح يواجَه بدرجات مختلفة من التشدد من جانب السلطة، التي أصبح يضيق صدرها بالنقد خلال السنوات الأخيرة. ذلك راجع لحد كبير إلى ثقة متزايدة ونزوع من جانب أردوغان الرجل القوي في السلطة منذ العام 2004. إذ عين رئيساً للوزراء آنذاك واستمر حتى العام 2014. ثم انتخب رئيسا للجمهورية في ذلك العام، وهو يعمل الآن جاهداً للجمع بين المنصبين عبر محاولته تعديل الدستور والانتقال إلى النظام الرئاسي. ذلك أن النجاحات التي حققها خلال تلك الفترة الطويلة نسبياً رفعت منسوب طموحاته بقدر ما جعلته أكثر حساسية إزاء معارضيه. وهؤلاء ضاقوا باستمراره والتأييد الشعبي له، حتى أصبح هجومهم عليه أكثر شراسة في البرلمان والإعلام. وهي المجالات التي مازالت مفتوحة أمامهم ويتحصنون بها. خصوصا أن التأييد الشعبي لهم متواضع بالمقارنة مع حزب «العدالة والتنمية». والأخير فاز بنسبة 41 في المئة من الأصوات في انتخابات العام 2015، في حين فاز منافسوه بنسب أقل من ذلك بكثير. حزب «الشعب الجمهوري» العلماني واليساري حصل على 25 في المئة فقط. أما حزب «الحركة القومية» اليميني فشعبيته لم تتجاوز 17 في المئة وحزب «الشعوب الديموقراطي» الذى يمثل الأكراد فاز بـ 13,5 في المئة.
برغم الضعف النسبي للأحزاب المعارضة، فإنها موجودة وعالية الصوت. والصحف التي تعبر عنها، «جمهوريت» و «ايدينليك» و «افرنسيل» و «سوذجو» و «بيرجين» وغيرها، تقيم محاكم علنية ويومية لأردوغان، ويصل بها الأمر أحيانا إلى حد التطاول عليه وتجريحه، الأمر الذي يدفعه إلى مقاضاة بعض الدور الصحفية والكتاب، وهي الإجراءات التي تندد بها صحف الديموقراطيات الغربية لأسباب مبررة ومفهومة. ومن المفارقات أن بعض الصحف العربية تستخدم تلك الانتقادات في التنديد بشخص أردوغان ونظامه في إطار الصراع السياسي معه. متناسية أن الهامش الديموقراطي في تركيا يتجاوز بكثير ما هو متاح في كل العالم العربي، باستثناء لبنان.
(3)
هذه المرة لاحظت أن حالة الاسترخاء السياسي اختلفت في تركيا. إذ لمست تعاطفا مع رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، الذي استقال من منصبه بسبب تفاقم خلافاته مع الرئيس أردوغان. وقيل لي إن استقلال وقوة شخصية الرجل كانت سبباً لاحتكاكات ناعمة بينهما، وحين تبين أنه ليس ممكناً استمرار تسيير السفينة بقائدين، كان طبيعيا أن يغادر رئيس الوزراء وليس رئيس الجمهورية، إلا أن التعاطف مع أوغلو (الذي قيل لي إنه عاكف على إصدار ستة كتب كانت مؤجلة له) لم يؤثر على الترحيب برئيس الوزراء الجديد بن على يلدريم. فالأول رجل تفكير استراتيجي مستقل، والثاني رجل أردوغان وعقله التنفيذي منذ كان عمدة لإسطنبول في العام 1994. وجهده مشهود في إعمار تركيا من أقصاها إلى أقصاها. وقد اختاره أردوغان للعمل بجانبه باعتباره رجل المهمات الخاصة. حتى ظل يوصف طول الوقت بأنه كان يدير «حكومة الظل»، التي ضمت 13 مستشارا كان لهم دورهم في رسم سياسة تركيا في الداخل والخارج.
في الوضع المستجد، أصبحت تركيبة رأس السلطة أكثر توافقاً وانسجاماً. وبحسب جريدة «حريت»، فإن أمام السيد يلدريم سبعة ملفات كانت عناوينها موضوعا للاختلاف في الرأي بين أردوغان ورئيس الوزراء السابق. هذه الملفات هي: الحرب على الإرهاب الذي يعني هناك التعامل مع «حزب العمال الكردستاني» (الأكراد يمثلون 16 في المئة من السكان). وثمة إشارة إلى أن يلدريم الذي يحتفظ بعلاقات جيدة مع الجيش ورئاسة الأركان قد يسعى للعودة إلى: طرق باب الحل السلمي الذي يوقف العنف والاقتتال ــ الملف الاقتصادي الذي يعد إنعاشه والحفاظ على معدلات نموه مهمة أساسية للحكومة ــ الدستور الجديد الذى يتطلع أردوغان إلى تعديله للانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي ــ تعيين حكام المدن ومديري الأمن الذي أطلق رئيس الوزراء السابق يده فيه من دون الرجوع إلى القصر الجمهوري، الأمر الذى أثار استياء أردوغان ودفعه إلى رفض التوقيع على تلك التعيينات ــ الملف الخامس يخص الانفتاح على العلويين (يمثلون ما بين 16 و20 في المئة من السكان) ومعهم الأقليات المسلمة من غير أهل السنة وأبرزهم البكتاشيون، وهؤلاء لهم مشكلاتهم المعلقة منذ سنوات عدة. الملف السادس يتعلق بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي التي ساءت في الفترة الأخيرة ــ الملف السابع محوره العلاقات الخارجية التي ستترك للرئيس أردوغان.
(4)
الشأن الداخلي يهمنا لأن بلداً بأهمية ووزن وقوة تركيا لا نستطيع أن ندير الظهر له أو نشطبه من المعادلة في أي تفكير رشيد وليس بالضرورة تفكيراً استراتيجياً. وإذا كان الدكتور جمال حمدان قد تحدث عن تركيا ومصر وإيران باعتبارها تشكل أضلاع المثلث الذهبي الذي يمكن أن يقود نهضة المنطقة، فربما احتجنا إلى من يرصد الخسائر التي لحقت بالمنطقة جراء انهيار جسور التعاون بين الدول الثلاث. وإلى جانب ذلك، فإننا نشهد بأعيننا كيف انطلقت إيران وتمددت في ظل الخصومة بين القاهرة وأنقرة التي أدت إلى انهيار «المعسكر السني»، وكيف حلت الحروب الطائفية محل التعاون الاستراتيجي، وكيف استفادت إسرائيل من كل ذلك وخسر المسلمون السنة والشيعة.
لدي ملاحظتان أخيرتان في هذه القراءة هما:
ـ إن العلاقات المصرية التركية التي تدهورت سياسياً وجمدت اقتصادياً خيم عليها الانفعال على الجانبين على نحو محزن، إذ صرنا بإزاء علاقات دافئة مع إسرائيل وباردة ومعقدة مع أنقرة، وصارت إسرائيل تغازل مصر وتركيا وتلاعبهما. وأفهم أن للانفعال أسبابه، فتركيا تدخلت في الشأن المصري بأكثر مما ينبغي. ومصر رهنت العلاقة مع تركيا على موقفها من «الإخوان» وردت على أنقرة بإجراءات ذهبت فيها أبعد مما ينبغي على الصعيدين السياسي والإعلامي.
ـ الملاحظة الثانية أني ألمح في الأفق التركي إشارات موحية بأن خطوط السياسة الخارجية محل مراجعة وإعادة نظر. فثمة تهدئة في تصريحات الرئيس أردوغان تجاه مصر، خصوصاً أن أنقرة استشعرت أن وجود «الإخوان» وحلفائهم في تركيا بقنواتهم التليفزيونية حملها بأعباء أثقلت كاهلها، كما أن الخلافات الحاصلة بينهم سببت صداعا للسلطات المختصة. وغاية ما يمكن أن يقال في هذا الصدد أن الملف مفتوح الآن ويدرس من جوانبه المختلفة. في الوقت ذاته تسربت أنباء عن التمهيد لنقل زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان من سجنه الانفرادي في جزيرة أمرالي ببحر مرمرة إلى الإقامة الجبرية في مكان آخر، لتسهيل التواصل معه لتهدئة الأوضاع مع حزب «العمال» الذي يخوض حربا ضد الجيش التركي. من ناحية ثالثة نشرت صحيفة «يني شفق» في عدد 2/6 مقالة لكاتبها عاكف أمره المقرب من الحزب الحاكم، أشار فيه إلى أخبار تحدثت عن لقاء سري تم في الجزائر بين مسؤولين أتراك وموفد من الرئيس بشار الأسد، وعن إرسال نظام الأسد شخصا تعرفه أنقرة للوساطة بين البلدين. وذكر الكاتب أن التطورات الحاصلة في المنطقة استدعت تحريك ذلك الملف بعدما صارت الأمور تهدد وحدة سوريا وأمن تركيا (يقصد سعي الأكراد السوريين لإقامة كيان لهم على الحدود بين البلدين).
هذه الإشارات تحتاج إلى تمحيص وتحقيق، ومن المهم تسلمها، الأمر الذي يثير تساؤلا مشروعا عن موقف القاهرة وخطواتها المقبلة. وهو ما أستطيع أن أسأل عنه لكني لا أملك إجابة عليه.