هيلاري والمكتب البيضاوي: عقدة وطموح.. بقلم: جميل مطر

هيلاري والمكتب البيضاوي: عقدة وطموح.. بقلم: جميل مطر

تحليل وآراء

الخميس، ٩ يونيو ٢٠١٦

أعترف بداية أني لم أكن يوما من محبي السيدة هيلاري كلينتون، المرشحة عن «الحزب الديموقراطي» لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية. فقدت تعاطفي حين تنازلت عن أمور أساسية تتعلق بأنوثتها وكرامتها في سبيل الوصول إلى السلطة. لم تكتف بأن تكون قريبة من السلطة، حتى كزوجة لرئيس جمهورية الدولة الأعظم. أرادتها كاملة غير منقوصة ولها وحدها ولا شريك حتى لو كان الشريك شريك حياتها. لا أحبها ولكني معجب بكثير من صفاتها. أعجبني فيها وما زال يعجبني طموحها الغلاب. أرادت أن تصل إلى منصب الرئيس، فتحملت بصبر نافذ وقوة خارقة تداعيات صعود زوجها الصاروخي وتعدد علاقاته النسائية، فتغاضت عنها إلا واحدة تصدت لها دسائس القصر وعيون الإعلام المتربص دائما بسكان البيت الأبيض. حينئذ خرجت إلى الرأي العام تفاصيل مداعبات مارسها السيد الرئيس في مكتبه البيضاوي مع الآنسة لوينسكي المتدربة في الرئاسة.
لم يعجبني أداؤها كوزيرة خارجية، بل أتصور أن هذه المرحلة كانت بين الأسوأ في التاريخ السياسي للسيدة هيلاري في تلك الفترة، وهي السنوات بين 2009، و2013. إذ لحق بسمعتها رذاذ تطاير في كل الاتجاهات بسبب تدهور علاقات واشنطن بالقيادة الحاكمة في إسرائيل، واستمرار التردي في أوضاع العراق وأفغانستان، والفشل المتلاحق في إخراجهما من حالة الفوضى والحرب. كذلك لم تفلت هيلاري من الاتهام بأنها مع الرئيس أوباما أهملا التعامل مع ثورات «الربيع العربي»، وبشكل خاص أساءا إدارة وتوجيه الحملة العسكرية في ليبيا، ما تسبب في سقوط «الدولة» هناك وانتشار الفوضى.
لاحظت، كما لاحظ آخرون راقبوا تطورات الحملة الانتخابية للرئاسة، أن هيلاري تعمدت إغفال هذه المرحلة من حياتها برغم أنها المرحلة التي تبوأت فيها أحد أعلى مراكز السلطة في واشنطن، فضلا عن أنه المركز الذي حقق لها الاتصالات الأعمق والأوسع بعديد زعماء العالم. واضح أنها اعتقدت أن الحديث الآن عن المرحلة التي تولت فيها منصب وزيرة الخارجية قد يُفقدها العديد من أصوات التيار المحافظ، فتجنبت هذا الحديث.
إلا أني يجب أن أعترف أن هيلاري، بالمقارنة بالرجلين الذين ينافسانها على منصب الرئاسة، تتمتع بأرصدة وفيرة، ليس أقلها أهمية الدعم المالي الهائل وربما غير المسبوق من جانب العناصر الأكثر ثراء في أميركا والشرق الأوسط. لا شك أيضا أن مؤسسات في الدولة تتمتع بنفوذ في سير العملية الانتخابية، اختارت في ما يبدو أن تدعم المرشحة هيلاري بوسائل شتى. أضف إلى ما سبق أن هيلاري تجسد تجربة فريدة وهي أنها عاشت في البيت الأبيض زوجة للرئيس، بل ربما الزوجة الأقوى نفوذا في سلسلة طويلة من زوجات لم يتركن أثرا يذكر في الحياة السياسية، برغم إقامتهن الطويلة في البيت الأبيض. يكفي أن نعرف أن السيدة هيلاري تعرف الآن من زعماء العالم وقادة المجتمع المدني في بلاد كثيرة، أكثر مما يعرف كل من السيد ترامب والسيناتور ساندرز.
لا يجوز لنا إغفال الخبرة التي حصلت عليها السيناتور هيلاري كلينتون أثناء تمثيلها ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ الأميركي، برغم أننا نعرف أنها لم تقدم تشريعا واحدا مؤثراً أو قوياً، ولم تكن مشاركتها في التشريع على مستوى الشيوخ المخضرمين والنابهين. أعتقد مثل مراقبين آخرين أنها سعت إلى احتلال هذا المنصب وفي ذهنها أنه المحطة الضرورية للخطوة التالية، خطوة الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية، وهو ما فعلته.
من أرصدتها الثمينة أيضا التي تُميزها عن منافسيها، أنها، أي السيدة هيلاري، استطاعت، وبنجاح، الاحتفاظ بعلاقات قوية مع تيار المحافظين الجدد، وبخاصة مع ديك تشيني وبول فولفوفيتش والسيدة كيركباتريك، وكذلك مع تيار أحب أن يُطلَق عليه «الليبراليون التدخليون»، أي هؤلاء المدافعون في «الحزب الديموقراطي»، وفي الإعلام عن الحقوق والحريات، إلى حد استعدادهم دعم أي قرار يصدره رئيس أميركي لفرض النظام الديموقراطي على بلد أو آخر، ومن هؤلاء أذكر بول كروغمان وتوماس فريدمان وفاريد زكريا. وفي الوقت نفسه تحظى هيلاري بسمعة طيبة في دوائر المؤسسة العسكرية بفروعها المختلفة وبخاصة الفروع الأمنية، أخص بالذكر تلك القيادات والشخصيات المتشددة التي تحن بين الحين والآخر إلى الحرب، وهذه تشيد حتى الآن بهيلاري، بنت السابعة والعشرين التي انتفضت على التيار السائد في أميركا وقتذاك، حين عرضت نفسها على الجيش متطوعة لتحارب في فيتنام. يلخص جيفري ماكس طبيعة هذه العلاقة بين هيلاري والعسكريين في تحليل له عن دور هيلاري في صنع السياسة الخارجية، فيقول: «إن ما يسمى بخبرتها في السياسة الخارجية لا يخرج عن كونه دعما كاملا من جانبها لكل جهد حربي تقوم به دولة الأمن التي يديرها العسكريون والاستخبارات الأميركية». يعرف الكثيرون أيضا أن المؤسسة العسكرية لا تنسى لهيلاري ما قامت به من أجلها خلال عضويتها في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ.
ليس سراً، بل وجاء ذكره في بعض مذكراتها، أنها بدأت نشاطها السياسي وهي في سن السابعة عشرة كمتدربة في حملة السيناتور غولد ووتر اليميني المتطرف للرئاسة في العام 1964، ثم في حملة السيناتور المتطرف أيضا يوجين مكارثي، ولم يتجاوز عمرها واحداً وعشرين عاما. وها هي تتقدم لاحتلال منصب رئيس الجمهورية الأميركية مدعومة من المؤسسات والقوى اليمينية المتطرفة كافة، وتجري الآن محاولات جادة لزحزحتها قليلا نحو الوسط واليسار المعتدل، أملا في امتصاص بعض الطاقة «الثورية» التي أطلق عقالها السيناتور برني ساندرز.
التزمت هيلاري طويلا وكثيرا مبادئ وسياسات التطرف اليميني، ولكنها تحت ضغط منافسها «الديموقراطي» برني ساندرز تجد نفسها الآن مضطرة إلى أن تزايد عليه حتى لا تفقد أصوات الشباب والتيار اليساري المتصاعد في بعض الولايات والأوساط الأميركية، مثال ذلك دعوتها لزيادة الحد الأدنى للأجور ضد رغبة رجال الأعمال والمال، وهم الذين يمولون حملتها الانتخابية. مثال ذلك أيضا تراجعها عن دعم اتفاقية التجارة عبر الباسيفيكي بينما كانت قبل عامين تصفها بالنموذج الذهبي للتجارة العالمية. ومع ذلك لا أحد يعتقد أن هيلاري سوف تفلح خلال المرحلة المتبقية في الحملة الانتخابية في وقف انحسار شعبيتها وبخاصة في أوساط النساء الصغيرات العمر. هؤلاء لن يصوتن لها بدافع حق المرأة في أن تكون رئيسة جمهورية، لأنهن في هذه المرحلة العمرية لم يلتزمن بعد بقواعد ومبادئ الحركة النسوية. الأولوية لديهن تبقى لحقهن كشباب في التغيير، ورفضهن لمؤسسة الطبقة السياسية الحاكمة. مثلهن، وهذا هو المتغير الأشد غرابة في هذه الحملة الانتخابية، مثل كل من ساندرز وترامب، متمردات على نظام الحزبين بشكله الراهن وعلى ألاعيب السياسة الانتخابية التي تحاول أن تفرض عليهن هيلاري كلينتون، برغم عيوبها وولاءاتها المعروفة.
سمعت إحداهن تقول: «لن نصوت لمرشح، من جنسنا، لمجرد انها امرأة، ثم نفاجأ بأن هذه المرأة الرئيس ستلعب دور المعول لهدم الحقوق والحريات ولخدمة مصالح المصارف وقطاع المال والأعمال، امرأة لا تختلف عن نساء خنَّ قضايا الحرية ومكافحة الفساد مثل جين كيركباتريك ومادلين أولبرايت وكوندوليسا رايس ومارغريت تاتشر».