بوتين والدرع الأميركية.. بقلم: هاني شادي

بوتين والدرع الأميركية.. بقلم: هاني شادي

تحليل وآراء

الجمعة، ٣ يونيو ٢٠١٦

برغم أن موضوع الدرع الصاروخية الأميركية لم يُناقش خلال مباحثات الرئيس الروسي ورئيس الحكومة اليونانية في السابع والعشرين من أيار الماضي في أثينا، بحسب يوري أشاكوف مستشار الرئيس الروسي، إلا أن بوتين اختار اليونان، عضو الاتحاد الأوروبي و «حلف شمال الأطلسي»، لتكرار رفض بلاده نشر عناصر من هذه الدرع في أوروبا الشرقية. وقد هدد بوتين بالرد على نشر الدرع، متوعداً الدول التي تسمح بنشر عناصر منه على أراضيها بأنها ستكون في مرمى الصواريخ الروسية. ولم يتوقف الرئيس الروسي عند هذا الحد، بل أكد أن «التعاون الاقتصادي بين روسيا والاتحاد الأوروبي، بما في ذلك في مجال الغاز، أصبح مُهدداً بصورة مباشرة نتيجة تقدم الدرع الصاروخية الأميركية نحو الحدود الروسية». وفي اليوم التالي، وصل بوتين إلى جبل «أثوس» المقدس في اليونان، وزار ضمن ما زار كنيسة السيدة العذراء وجلس بأريحية كبيرة على الكرسي المخصص للأباطرة البيزنطيين، في إشارة للتذكير بأن القياصرة الروس كانوا يرون أنهم ورثة بيزنطة، وعاصمتهم وريثة للقسطنطينية.
إن تهديدات بوتين جاءت رداً على نشر الولايات المتحدة في رومانيا في الثاني عشر من أيار المنصرم أول 24 صاروخاً من الصواريخ الاعتراضية المكونة للدرع، فضلاً عن الاحتفال الذي جرى في اليوم التالي لذلك بوضع الحجر الأساس لقاعدة صواريخ في شمال بولندا، سيجري نشر صواريخ اعتراضية متوسطة المدى فيها من طراز «SM-3». وترفض روسيا بشدة رغبة عدد من دول أوروبا الشرقية بنشر منظومة الدرع الصاروخية الأميركية ــ الأطلسية على أراضيها، انطلاقاً من أن هذا يستهدف تقويض قوة الردع النووي الروسي. وترفض أيضاً ما تردده واشنطن من أن الدرع الصاروخية تستهدف صواريخ إيران وكوريا الشمالية البالستية. وتُشدد العقيدة العسكرية الروسية، من دون مواربة، على أن نشر الدرع الصاروخية الأميركية يقوض الاستقرار العالمي وينتهك توازن القوى القائم في المجال الصاروخي النووي، ويمثل خطراً على الأمن القومي الروسي. ولذلك نرى الكرملين يعمل منذ فترة على اتخاذ إجراءات مضادّة تهدف أساساً إلى تزويد الجيش والأسطول الروسيين بأنظمة حديثة، تسمح بمواجهة منظومة الدفاع الصاروخية الأميركية، تتضمّن صواريخ «اسكندر»، وحالياً صواريخ «كاليبر» التي استُخدمت في سوريا مؤخراً.
تنديد موسكو بخطط الولايات المتحدة و «حلف شمال الأطلسي» بنشر قوات عسكرية وعناصر الدرع الصاروخية في بعض الدول الأوروبية ليس جديداً تماماً. ففي العام 2010، لم تخفِ روسيا قلقها إزاء خطط نشر صواريخ اعتراضية أميركية في رومانيا وبلغاريا، ومن ثم طلبت إيضاحات من صوفيا وبوخارست وواشنطن بهذا الشأن. وكانت رومانيا قد أعلنت في العام المذكور استعدادها لنشر عدد من الصواريخ الاعتراضية التابعة لمنظومة الدرع الصاروخية الأميركية على أراضيها بناء على طلب من الرئيس الأميركي. كما أعلنت بلغاريا الموقف نفسه، الأمر الذي أثار حفيظة موسكو. علماً بأن الكرملين كان قد رحب، ببعض التحفظ، بقرار بارك أوباما في أيلول 2009 بإجراء تعديلات على خطة إنشاء منظومة الدرع الصاروخية، ووقف نشر عناصر منها في بولندا وجمهورية التشيك. ولكن اتضح في ما بعد أن واشنطن لم تتخلّ نهائياً عن نشر درعها الصاروخية في أوروبا، بل أجلت نشرها لبعض الوقت.
إن ما يُقلق روسيا من الدرع الصاروخية الأميركية يتمثل أيضاً في الغموض الذي يكتنف اللوحة النهائية التي ستكون عليها هذه الدرع. لقد كانت القيادة الروسية، في وقت سابق، لا تمانع إزاحة مواقع المنظومة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ باتجاه جنوب أوروبا وتركيا، وذلك كما ذكر الجنرال يوري بالويفسكي، الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للجيش الروسي في العام 2007. ويرى الروس أنه طالما ظل الشكل النهائي للشبكة الأميركية المضادة للصواريخ غير واضح، فستكون موسكو أمام احتمالين لنشرها في أوروبا: الاحتمال الأول يتمثل في توجيه الدرع ضد إيران بالفعل، وحينئذ ستنشر كُل القواعد والرادارات في جنوب أوروبا وتركيا مع التركيز على صواريخ «SM-3» المخصصة لاعتراض الصواريخ المتوسطة المدى. أما الاحتمال الثاني، وهو المُضاد لروسيا، فيتضمن نقل مركز ثقل الدرع الصاروخية إلى بولندا مع إمكانية نشر صواريخ «GBI» القادرة على اعتراض الصواريخ البالستية الروسية. وبعد الاتفاق النووي الإيراني مع السداسية، باتت موسكو مقتنعة تماماً بأن الدرع يستهدف الأمن القومي الروسي وقدرات الردع النووي الروسية.
من المعروف أن الكرملين لم يتمكّن عملياً من ربط تقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية بنشر منظومات الدفاع المضاد للصواريخ في نص معاهدة «ستارت» الجديدة، التي وُقعت في براغ في الثامن من نيسان 2010. ولذلك كانت المؤسسة العسكرية الروسية ومعها المؤسسة السياسية العليا، في عهد الرئيس السابق دميتري ميدفيديف، ترى آنذاك أن الحل الأمثل هو إنشاء درع صاروخية تشارك فيها روسيا مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية على قدم المساواة. فقد أعلن الرئيس السابق لهيئة أركان قوات الصواريخ الاستراتيجية الروسية الجنرال فيكتور يسين أنه بوسع موسكو وواشنطن القيام سوية بدراسة موضوع نشر منظومة استراتيجية للدفاع المضاد للصواريخ في أوروبا في حال صنع إيران صواريخ بالستية بعيدة المدى. ودعا الجنرال الروسي إلى الاستفادة من إمكانيات محطة رادار «غابالا» في أذربيجان ومحطة رادار «أرمافير» الروسية، وكذلك نظامي الدفاع الجوي «إس ـ 300» و «إس ـ 400» في البرنامج المشترك مع الولايات المتحدة. لكن واشنطن رفضت مثل هذا الحل الروسي لهذه المشكلة.
إن بداية الخطوات العملية لنشر الدرع الأميركية في رومانيا، والتي ستلحق بها خطوات أخرى مشابهة في بولندا بحلول العام 2018، وربما في مناطق أخرى من أوروبا الشرقية، فتحت الأبواب أمام تكهنات مراقبين روس بنشوب حرب عالمية جديدة. علماً أن بعض الأصوات داخل المؤسسة العسكرية الروسية كانت قد أعلنت، عند بدء واشنطن بالترويج لنشر منظومة درعها الصاروخية في أوروبا الشرقية قبل سنوات عدة، أن أفضل وسيلة لتلافي الخطر المقبل منها هو توجيه ضربات صاروخية وقائية ضدها، وذلك في حال قررت القيادة السياسية الروسية أن الحرب واقعة لا محالة. ويرى خبراء روس أن تدمير قواعد الدرع الصاروخية بواسطة أسلحة روسية غير نووية عالية الدقة لن يؤدي بالضرورة إلى حرب نووية مع الولايات المتحدة، لكنه قد يتسبب في مواجهة مع تلك البلدان، التي تُرابط فيها الصواريخ الاعتراضية التابعة للدرع الصاروخية الأميركية. غير أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف استبعد مؤخراً في مقابلة مع جريدة «كومسومولسكايا برافدا» الروسية احتمال نشوب أي حرب عالمية جديدة. ويعتقد فريق من الخبراء الروس أن أحد أهداف نشر منظومة الدفاع المضادة للصواريخ الأميركية بالقرب من روسيا يتمثل في استنزافها في سباق تسلُح جديد على غرار ما جرى مع الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك ضمن سياسة بعيدة المدى لاحتوائها مستقبلاً. ويبدو أن واشنطن لن تتراجع عن نشر درعها الصاروخية في أوروبا الشرقية، ومن ثم سيجد بوتين نفسه على المحكّ بشأن ما أطلقه من تهديدات.