أميركا تعيد بيع البحرين للسعودية

أميركا تعيد بيع البحرين للسعودية

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٠ مايو ٢٠١٦

 عباس بوصفوان
فيما يخص البحرين، فإن خلاصة ما جرى في اجتماع الرئيس باراك أوباما مع القادة الخليجيين العرب، في ابريل/ نيسان الماضي، في الرياض، تتمثّل في بيع الولايات المتحدة البحرين، الخاضعة للسعودية أصلاً، للسعوديين والخليجيين مرة أخرى وجديدة، في خطوة لا تكلف واشنطن شيئاً، غير اتضاح نفاقها المفضوح... كما لا تمنح الخليجيين نفوذاً إضافياً من الناحية الفعلية، لكنها تكلف شعب البحرين غالياً، لأن محاولة واشنطن امتصاص الغضب الخليجي من الاتفاق النووي الإيراني الغربي، تتم على حساب حق مواطني البحرين في إدارة شؤونهم السياسية، وثرواتهم القومية.

وقد مهّدت زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى البحرين، واجتماعه مع ملكها حمد، في السابع من الشهر نفسه (ابريل ٢٠١٦)، لهذه الصفقة.
بعد تلك الزيارة، الأولى من نوعها لوزير خارجية أميركي منذ ٢٠١١، للمنامة، فإن مساراً جديداً يُراد له أن يتشكل في الجزيرة الصغيرة، أسميه «مسار كيري»، أظنه يفرض على اللاعبين المحليين تبعات جديدة.
ويبدو اللاعبون المحليون أقل الفاعلين تأثيراً في هذا المعترك، الذي يُسجل فيه انتصار أميركي تقليدي لعائلة آل خليفة الحاكمة، وسط صراع محتدم بين السعودية وإيران، على طول الإقليم وعرضه، وعلى مختلف الملفات والجبهات. وفي ظل رفض قوى المعارضة الوطنية البحرينية لإملاءات السلطة، مقابل إعلاء الأخيرة لمقولة «عودوا إلى بيوتكم»، التي أطلقها وزير الخارجية السعودي السابق سعود الفيصل، الذي قال لوزيرة خارجية أميركا، في مارس/ آذار ٢٠١١، هيلاري كلينتون «إن على المحتجين الذهاب الى منازلهم وترك الحياة تستمر، عندها فقط يمكن لنا التحدث عن اتفاق»، كما كتبت المرشحة الديمقراطية الحالية لانتخابات الرئاسة الأميركية، في مذكراتها. وهي العبارة التي كرّرها لاحقاً ولي العهد ووزير الداخلية السعودي الأسبق نايف بن عبد العزيز لوزير الأمن والاستخبارات الإيراني حيدر مصلحي، حين التقيا في الرياض، في ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١١.
الاجتماع المشار له بين كيري وحمد، الأول وليس بالضرورة الأخير، كان قد تزامن مع عقد كيري مباحثات مع «نظرائه» الخليجيين، للتحضير للقمة الخليجية الأميركية، التي كانت عُقدت في الرياض بعد نحو أسبوعين من لقاء احتفالي جمع الوزير الأميركي والملك البحريني، الذي ظهر في الصور التي بثتها وكالة الأبناء الرسمية في حالة انتشاء، لا أظنها يمكن أن تنسيه «الذكريات المؤلمة» من ارتفاع صوت «يسقط حمد» في أرجاء المنامة، وفي رحاب دوار اللؤلؤة الشهير، الذي يرمز لمجلس التعاون الخليجي (تمت إزالة الدوار، مباشرة بعد فض الاعتصام بالقوة العسكرية، واستبدَلت السلطات الدوار بتقاطع سمته تقاطع الفاروق، لا زالت بعض اتجاهاته مغلقة، بسبب مخاوف حكومية من إعادة احتلاله من قبل متظاهرين معارضين، وذلك ليس إلا صورة من صور شتى توضح اليد الغليظة التي تحكم البلاد الصغيرة، النموذج للقهر الخليجي- الغربي).
طوال أربع سنوات مضت، امتنع الوزير كيري عن زيارة البحرين، بالرغم من زياراته الخليجية المتتالية، والتفسير الذي يتم تداوله أحياناً أن واشنطن غاضبة من المنامة، بسبب أدائها الأمني والسياسي «غير المتسق والقيم الأميركية»، لكن الحقيقة هي أن البحرين ظلّت ورقة أميركية تستثمر للنيل من الخليجيين، أو على الأرجح لقرص أذن الأنظمة الخليجية، ومقايضتهم، في ظل توجه أميركي معلن لإعادة الانتشار في العالم، ينقل الثقل العسكري للولايات المتحدة إلى محاصرة القوة المتنامية للصين.
مع ذلك، لم تحظ المعارضة في البحرين، المتسمة بالاعتدال، إلا باحتضان محدود ومؤقت وعابر من واشنطن، أبرزه ذكر الرئيس الأميركي باراك أوباما اسم «الوفاق»، الحزب الرئيسي المعارض في البحرين، من على منصة الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول ٢٠١١، موجهاً الدعوة للسلطات الخليفية لحوار «ذي مغزى» معها، وذلك نموذج من الثرثرة الأميركية والغربية عموماً، بشأن الديمقراطية في المنطقة، التي لم تترجم إلى أقوال.
لا يتعلق الأداء الأميركي المنتقد لسلطات المنامة، على لسان أوباما نفسه، في ٢٠١١، وفي السنوات التالية، بصورة تنازلية، بانتصار غربي لحق شعب البحرين في حكومة وبرلمان منتخبين وأجهزة أمنية وجيش وطنيين، كما تدعو المعارضة، بل باستراتيجية أوسع لكيفية إدارة واشنطن قواعد اللعبة مع الرياض وإيران. وهي لعبة تتداخل فيها قضايا الإقليم، خصوصاً ملفات العراق واليمن وسوريا ولبنان، فضلاً عن تدفق النفط وأمن إسرائيل، في ظل تبدل رؤى البيت الأبيض، وأولوياته الأمنية العالمية.
هذا لا يمنع القول إنّ نقاشاً أميركياً - أميركياً قد يطفح على السطح أحياناً، عن فرص أن تكون البحرين دولة ديمقراطية بالمقاييس العربية (وليس الغربية)، على غرار الأردن، مثلاً، في منطقة تتسم بجمود كامل. لكن حتى في الأردن تتراجع فيها «الديمقراطية المقيدة»، إلى حدود بات فيها الملك عبدالله الثاني، بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، أشبه بسلطان، يُعيّن كل أركان الدولة ويدير مفاصلها مباشرة، من دون مساءلة برلمانية، مثل نظيره ملك البحرين، الذي سبق أن أعلن نفسه حاكماً مطلقاً، برعاية أميركية، في دستور أصدره منفرداً في ٢٠٠٢.
وعلى الأرجح، فإن التردّي الأردني إيذان أميركي بطيّ صفحة الديمقراطيات المعتلّة النادرة في المنطقة، بل بطي صفحة المطالبات الديمقراطية التي طالما استثمرها الغرب لصالحه، متآمراً في نهاية المطاف ضد حقوق الشعوب.
اختيار العاصمة البحرينية مكاناً لاجتماع كيري ونظرائه الخليجيين ما كان عبثاً. وافق الأميركيون أن يمنحوا الأنظمة الخليجية مكسباً في الجزيرة الصغيرة المحاذية للسعودية وإيران.
ما توقّع الأميركيون أن يمضي بيع الوهم للخليجيين إلى نهايته بهذه السلاسة. شعر آل خليفة بالنشوة، فيما تساءل كيري، ماذا نخسر؟ المنامة أصلاً واقعة تحت نفوذ آل سعود، فيما تبدو إيران حذرة من أن يتجاوز دعمها للمعارضة في البحرين حدود الدعم الإعلامي.
في ٢٠١١، فضّلت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون غضّ البصر عن التدخل العسكري السعودي الإماراتي في البحرين، على أن يقبل الإماراتيون المشاركة في الحملة الغربية ضد نظام العقيد القذافي، في ليبيا.
قرأنا تأتأة كلمات في مذكرات كلينتون، تريد منها الوزيرة نفي قبول واشنطن بتدخل خليجي عسكري، ضد الحركة الوطنية البحرينية السلمية الواسعة المطالبة في بالإصلاح في ٢٠١١، لكن الصيغة التي نشرتها كلينتون في مذكراتها تؤكد التواطئ الأميركي، لا تنفيه.
أبلغ عبدالله بن زايد وزير الخارجية الإماراتي كلينتون «بصراحة إنه من الصعب أن نشارك في عملية أخرى عندما تتم مساءلة وضع قواتنا المسلحة في البحرين من قبل حليفنا الأساسي. بكلمات أخرى، عليكم نسيان أمر المشاركة العربية في بعثة ليبيا»، كما كتبت كلينتون.
معلومات أخرى توافرت من مصادر أميركية، كانت أشارت إلى أنّ التدخل العسكري الخليجي في البحرين تم بعلم الأميركيين الذين ينظرون إلى الجزيرة الصغيرة على أنها حاملة طائرات عملاقة، في ظل وجود قيادة الأسطول الخامس على أرض البحرين.
التضليل الأميركي يتكشف يوم بعد يوم، وليس آخر فصوله الحرب العدوانية السعودية ضد اليمن، وفيها تمد واشنطن الرياض بكل الاحتياجات العسكرية والمخابراتية، والغطاء السياسي، وأيضاً تمدها بالإدانة التي تقوم بها المنظمات الأميركية والدولية، ضد قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية، في محاولة لامتصاص غضب المُعتدى عليهم، وتشتيت الانتباه عن التورط الغربي الحاصل في كل الأنحاء العربية.
وإذا كانت أميركا قد قدمت البحرين للسعودية، على طبق مليء بدم البحرينيين، لتحصل على دعم خليجي لشن حرب ضد طاغية ليبيا في ٢٠١١، فإن حاجة الأميركيين لتقديم شيء ما إلى الخليجيين، راهناً، أكبر، وتبدو البحرين جائزة ترضية غير مكلفة.
لم تتضح، بعد، طبيعة الوعود «الإصلاحية» التي قدمها الملك حمد لكيري، ويردد البعض أن الوزير الأميركي لا بد أن يكون تلقى وعوداً بـ«الإصلاح»، فيما أعتقد أن الصفقة الرئيسية تمّت خليجياً، وتمنح آل خليفة حكماً مطلقاً، إلا من «رتوش ليبرالية».
وقد يكون الملك حمد وعد كيري بإجراء انتخابات «نزيهة»، وهي كلمة لا تصدُق، ويعرف كيري ذلك، في ظل دوائر انتخابية غير عادلة، وقوانين تمكّن القصر من التحكم بمدخلات العملية الانتخابية ومخرجاتها.
متفائلون يتحدثون أن الملك قد يفرج عن معتقلين سياسيين قبل حلول الانتخابات النيابية في ٢٠١٨، وقد يقترح على المعارضة حقائب وزارية.
المؤكد أن تسوية تاريخية لم يعرضها السعوديون على كيري بشأن الوضع في البحرين. الواضح أن الفرضية السعودية «عودوا للبيوت ثم نتفاهم»، هي التي يراد لها أن تسود. ولا يختلف الأميركيون في ذلك عن السعوديين، إلا في اختيار الكلمات، وقد دعت وزارة الخارجية الأميركية مراراً المعارضة للمشاركة في الانتخابات، حتى إذا لم تكن عادلة، «ثم نتفاهم» بشأن خطوات الإصلاح التالية المطلوبة.
من دون شك، فإن عيون بعض المعارضين تتركز على المقاعد البرلمانية التي تذهب لقوى هامشية، عجزت حتى الآن أن تمنح البرلمان، والحُكم ما يحتاجه من زخم للادعاء بأن المطالبات التي تفجرت في ١٤ فبراير ٢٠١١، قد تم احتواؤها.
لكن عيون قادة الحراك المعارض الرئيسيين، وأغلبهم في السجون (مثل، زعيم الوفاق الشيخ علي سلمان، والليبرالي المعروف إبراهيم شريف، اللّذين يقترحان نموذجاً ملكياً مقنناً، وكذلك الداعي لإقامة نظام جمهوري في البحرين عبدالوهاب حسين) على مراكز القوة لدى المعارضة التي عمل النظام الخليفي على قهرها، بصورة ممنهجة.
القلق الذي يساور المعارضة الفاعلة ليس مقاعد البرلمان، بل التغيير الديمغرافي الزاحف الذي يقضم الهوية الوطنية، ويكتسب شرعية الأمر الواقع، مع مرور السنوات، تماماً كما يقضم الاستيطان الإسرائيلي الأرض الفلسطينية.
صحيح، أن التمييز الكريه يكرس الشيعة البحرينيين مواطنين من الدرجة الثانية، ويعزلهم اقتصادياً وسياسياً، لكن المستفيد من هذه العملية المكلفة، ليس فقط المواطنين السّنة، الذين يمكن التعاطي معهم حين يلتفت البلد إلى أهمية التوافق الوطني، وإنما تذهب نسبة كبيرة من ثروات البلد ومقدراتها إلى الأغراب، الذين يشكلون طائفة جديدة، ويتمركزون في الأجهزة الأمنية، وباتوا ينتشرون في أجهزة الدولة المدنية أيضاً، وفي مواقع مرموقة، أحياناً.
ولا يمكن أن يتم التغيير الديمغرافي في البحرين، من دون سند أميركي، وكوتا سعودية (تم تجنيس عشرات الآلاف من الدواسر السعوديين)، ورعاية بريطانية، خبيرة في التغيير الديمغرافي، كما فعلت في غير مكان.
مسار كيري في البحرين آخذ بالتشكل، وبعد نحو شهر من اجتماعه بالملك حمد، حضر إلى المنامة شريف بسيوني رئيس لجنة تقصى الحقائق في القمع الذي مورس بحق المعارضين في ٢٠١١ - والذي كان أوصى بتفكيك دولة القمع الخليفية، في التقرير الشهير الذي قدمة في نوفمبر من ذلك العام ـ ونام في حضن الملك، وتقلّد وساماً رفيعاً، وعقوداً مغرية لتدريب قضاة يدارون عير الهواتف، وليعلن من المكان نفسه الذي دان فيه حاكم البحرين، بأن الحاكم تاب لله، وطبق التوصيات، وهو ادعاء فارغ.
واستقبلت سويسرا ملك البحرين مؤخراً، وهي الدولة التي اعتاد الأميركيون على أن يستثمرونها لقيادة طلبات الإدانة ضد حكومة المنامة في مجلس حقوق الإنسان، ومن المتوقع أن يكون النقد للسلطات الخليفية في تناقص في الدورات المقبلة للمجلس، الذي لا يعدوا أن يكون ظاهرة صوتية.
بيعت البحرين من جديد لآل سعود، وضمن آل خليفة أن يستمروا «سلطة محلية». وصحيح أن اختيارات المعارضة صعبة، لكن ليس من بينها العودة للبيوت.