النكبة وطريق العودة..بقلم: رندة فرح

النكبة وطريق العودة..بقلم: رندة فرح

تحليل وآراء

الجمعة، ١٣ مايو ٢٠١٦

كم من الأجيال المتعاقبة سترث شعلة النضال والأمل على درب فلسطين؟ كم من النكبات تنتظرنا قبل أن نحقق حلم العودة إلى أرض الوطن؟ إلى متى ستستمر القيادات بسياسات خاطئة وفاشلة قبل أن يعيدهم الشعب إلى طريق العودة المؤدي الى فلسطين؟ سلسلة النكبات والمصائب التي حلت بفلسطين خاصة، والأمة العربية عامة جعلت مثل تلك الأسئلة صعبة لكن مُلحة.

التأمل في هذه اللحظة التاريخية بنكبة الـ٤٨ وحق العودة، هو مواجهة تاريخية مؤلمة. فالتأمل بالمستقبل يحاكي الحاضر- الماضي فى آن واحد، وهو مكتظ بسلسلة من النكبات المتتالية والنضالات الشاقة التى تقتصر في بعض الأحيان على صراع البقاء في مواجهة استعمار وحشي. فالدولة الإسرائيلية تعمل من دون كلل لكي تقتلع الجسد الوطني، وتمحو ذاكرتنا الدافئة عن فلسطين العربية وحلمنا في العودة.
أما العالم العربي فهو الآخر يمر بحالة انفصامات وانشقاقات وتقلبات مستمرة، وقد اجتاحه عنف ظلامي كعاصفة لا تأبى الرحيل. وسط كل هذا الموت، والتشرد، والدمار، هنالك بعض الدول العربية التي ازدادت بجاحةً وصراحةً في دعمها «للدولة اليهودية» التي بدورها تُمارس العنف الوحشي ضد الفلسطينيين لكي تُكمل مشروعها الاستعماري للأرض والتاريخ. لذلك، الضوء المسلط على القضية الفلسطينية من محيطها الأكبر قد خفُت. في حين انخفض عدد الدول «الشقيقة» التي يمكن التعويل عليها لمناصرة هذه القضية، فبتنا نشعر أننا نقف وحدنا في هذا الصراع.
وفي غضون هذه المصائب، تَمزقنا ما زال مستمراً الى درجة أن مصطلحات «الداخل» و»الخارج» التي تفتت الجسد الفلسطيني باتت وحدات اجتماعية وجغرافية تتكاثر وتضيق. في حين أصبح الشيء الوحيد الذي تجتمع عليه القيادة الفلسطينية المشتتة في الضفة الغربية وغزة هي الدول حيث يجتمعون على: مصر والسعودية على سبيل المثال.
للوهلة الأولى قد يبدو أنه بالرغم من أن عقوداً قد مرت في كفاحنا الذي لم يهدأ، تلوح العودة وكأنها أصبحت بعيدة. وأن إحياء ذكرى النكبة قد خفت صداه، فقد أصبح ينافس مصائب الشعوب الأخرى في العراق وليبيا وسوريا واليمن على رزنامة الرثاء والحداد.
ولكن خلف هذا المشهد الضبابي، المقاومة الفلسطينية بشتى أنواعها ما زالت لا تُقهر، سواء على مستوى المقاومة الفردية أو مجتمعات محلية أو شبكات وأطر عالمية. فهي تقف بشتى الطرق في وجه الاحتلال. هذا الحراك الثوري يزرع الحياة في وجه الموت والأمل في وجه اليأس ويحفظ ثورتنا من الضياع. في حين ان بعض القيادات التي تدور في فلك الإمبريالية والرجعية تتحرك وتتجه بشكل معاكس للخطاب الشعبي وتحركه ونضاله اليومي لجعل ذكرى النكبة أمر لا يمكن نسيانه.
ولكن لا بد من برنامج في أساسه معادٍ للامبريالية لكي ينتشلنا من المستنقع السياسي. فهكذا برنامج لا يمكن وصفه على أنه رومانسية سياسية، أو أنه ينتمي إلى عهد سابق. بالعكس تماماً، فالفلسطينيون ما زالوا شعب مستعمَر والإطار المناهض للامبريالية ينطبق علينا فى القرن ٢١، حتى لو اختلفت الأساليب في مكافحة الإمبريالية لتناسب العصر وتحولاته.

التغيرات والأجيال

«لما كان الواحد صغير، أمي - هي من عنابا وأبوي من بيت جيز- كانت توصف الزرع وكيف كانت تروح على المزرعة مع أبوي... وكيف تشردوا وطلعوا على أساس بدهم يرجعوا ومقبلوش يستوطنوا محل تاني... لما الواحد موجود في بيئة كلها هيك بربى جيل وطني... مجرد الواحد موجود في مخيم، اسمه مخيم للاجئين، ناس لجؤوا من بلد لبلد: في الدار في الحارة، في المدرسة، بتذكر كانوا المدرسين وطنيين، خاصة في وكاله الغوث، الصبح كنا ننشد نشيد الثورة، نطلع مظاهرات، خاصة يوم الأرض في ٣١ آذار، كل الناس تطلع مظاهرات وترفع العلم الفلسطيني... أما اليوم، صار الواحد يحس لما بيطلع على الفاضي... فش نتيجة».
هذا الاقتباس هو من مقابلة أجريت مع عمر في منتصف التسعينيات، وهو لاجئ من الجيل الثاني ترعرع في احد مخيمات اللاجئين في الأردن، وقد أجريت المقابلة بعد أقل من سنتين من توقيع معاهدة أوسلو. في هذا الحوار يتأمل عمر في حقبة تاريخية مضت تحلت بثقافة ثورية تربت عليها الأجيال الفلسطينية السابقة. وأرجع عمر هذه الثقافة الوطنية وارتباطه بفلسطين الى: الدور الذي لعبه جيل الـ٤٨ في حفر ذكرى فلسطين عميقاً في ذاكرة جيله من خلال حكاياتهم وذكرياتهم (التاريخ الشفهي) عن الأرض والوطن، وخاصة القرى الفلسطينية. وثانياً، الى خصوصية البيئة والحياة في المخيم التي تنتج ثقافه سياسية واجتماعية مميزة. وثالثاً، الى دور المعلمين والمعلمات في مدارس وكالة الغوث والذين زرعوا الحماسة الثورية في الطلاب والطالبات. وبالتالي يلاحظ أن أبناء وبنات المخيمات الذين انضموا الى منظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً كانوا قد رسموا لوحات عن بلدهم، واستطاعوا أن يتخيلوا منظومة العودة من خلال ذكريات القرى التي نقلها لهم أجدادهم. وأصبح الإيمان والتمسك بالعودة جزءاً من خطاب ثوري مناهض. وفي هذه المنظومة للوعي كانت مفاهيم «الأرض» و»الشعب» مترابطة ضمن مشروع تحرري واحد.
ولكن المناخ السياسي منذ ذلك الحين قد تغير كثيراً، خاصة بعد اتفاقية أوسلو التي ساهمت في انتاج انقسامات. ويتجلى ذلك بوضوح في استخدام مصطلح «أهل٦٧ وأهل ٤٨». فالشرخ في الجسد الوطني والتاريخ والأرض ما هو إلا نتاج السياسات الصهيونية الاستعمارية. كما أن السلطة الفلسطينية أيضاً ساهمت في ترسيخها عند توقيع اتفاقيات أوسلو وعندما ساومت ضمنياً في هذه المفاوضات على حق العودة، مما ولد اكتئاباً سياسياً. فعملياً لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب الفلسطيني. وبالإضافة إلى الشعور العام أن القيادة ساومت على الحقوق الوطنية، تنبّه الكثيرون الى أن جيل الـ٤٨ قد اضمحل، فهرعوا لتوثيق الذاكرة الشعبية عن النكبة والحياة في فلسطين العربية. هذا المشروع قام به مثقفون، ونشطاء، ومجتمعات مدنية حيث بذلوا جهداً كبيراً للتمسك بالذاكرة المضادة لسياسات النسيان القسري، وهي الآن ذاكرة موثقة الكترونياً قد خرجت من النطاق الخاص إلى الفضاء العام.
في بدايات عام ٢٠٠٠ كنت قد عملت مع مجموعة من الصبية والفتيات في أحد المخيمات في الاردن تراوحت أعمارهم ما بين العاشرة والرابعة عشر. في حينها كانوا متأثرين جداً بروح الانتفاضة الثانية، وقاموا بتصميم ونشر كتيّب صغير يدوّن قصص كانوا قد سمعوها عن فلسطين، وفقرات عن حياتهم في المخيم، وحلمهم في العودة إلى وطن لم يروه. وبعد مرور ١٥ سنة استطعت أن ألتقي ببعضهم، ولكنني تفاجأت عندما تحدث أحدهم عن «الفروقات بين السنة والشيعة»، ولا أخفي أنني صدمت عندما قال لي لاجئ آخر عن «الشهداء» الفلسطينيين الذي قتلوا في سوريا بأنهم قتلوا في معارك ضد «العلويين والإيرانيين والشيعة». هذا النوع من الخطاب الغريب عن المجتمع الفلسطيني، يعكس واقع التغيرات الخطيرة التي تهدد الحركة الوطنية الفلسطينية.
في سياق هذه التحولات فإن العبث بالمخيمات والتقليص من خدمات الأونروا التي كانت الى حد معيّن فعالة في السابق، مرتبطة بالسياسات الهادفة إلى محو وتغييب الرموز التي تشير إلى ذكرى النكبة، وحق العودة، والمسؤولية الدولية تجاه اللاجئين الفلسطينيين، وخاصة حق العودة. ولا بد من التساؤل هنا: بعد كل الدمار والعنف في مخيمات نهر البارد واليرموك وجنين وصبرا وشاتيلا، أي من المخيمات الأخرى سيدرج في لائحة التدمير وتغيير الثقافة السياسية؟ ولأي اسباب سياسية؟
وعلى ضوء هذا فإن إحياء ذكرى النكبة وحماية المخيمات الفلسطينية والحفاظ عليها لا يمكن فصلهما. فالأولى تؤشر الى المسؤولين عنها تاريخياً. والثانية الى حق العودة. وبالتالي فإن ذكرى النكبة وتواجد المخيمات لا تقاوم وتكذّب الخطاب الصهيوني فقط، بل تجابه أيضاً السياسات الفلسطينية التي تحاول تمرير مخطط حل الدولتين العقيم الذي يقلب المعادلة لصالح المشروع الصهيوني، بحيث يصبح حق تقرير المصير هو حق للمُستعمِر المُحتل وليس للشعب المُستَعمَر. فالاعتراف بحق وملكية «إسرائيل» لـ٨٠٪ من الأراضي الفلسطينية، عملياً وإن لم يكن معلناً، واستثناء اللاجئيين من هذا المخطط يحرم الشعب المُستَعمَر من ممارسة حق تقرير المصير بشكل غير منقوص وحقه الكامل في تفكيك الأستعمار.

الثقافة الثورية

إن مقاومة المحتل والقوى الرجعية ما هي إلا جزء من واقع الحياة اليومية للشعب الفلسطيني حتى بأبسط الأشكال، كتحدي الاذلال على حواجز جيش الاحتلال في الطريق الى المدرسة أو العمل. أو في إنتاج أعمال فنيه تقدمية ومقاوِمة وتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية. أو حتى الانضمام الى حركات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي أس). فهذه جميعها أفعال جبارة إذا ما أخذنا في عين الاعتبار أن السلطة الفلسطينية لا تساند إلا بعضها، والعنف والاضطهاد الذي يتعرض له الفلسطينيون من دولة معسكرة إسرائيلية وحلفائها. ولا بد من التأكيد أن المقاومة لم تبدأ الآن وإنما منذ بدء الاستعمار الصهيوني. لذلك فإن إحياء ذكرى النكبة لا يعني فقط التأمل في ماضٍ بعيد، وإنما كنقطة تحول في صراع حاضر ومستمر ضد الاستعمار.
ولكن ربط هذه الأشكال المختلفة والمتناثرة على خريطة المقاومة، يتطلب أيديولوجية وبرنامجاً سياسياً مناهضاً للإمبريالية، وقيادة ثورية تستمد شرعيتها من القاعدة الشعبية ومن قرارت جماعية. هكذا قيادة تعي جيداً أن القوى الأمبريالية لم ولن تكون ذات عون لأي مشروع وطني، ولا «راع نزيه»، وبأن التنسيق مع العدو لا يخدم إلا العدو. القيادة الثورية القادرة على تعبئة الشعب الفلسطيني في جبهة متماسكة مناهضة للأمبريالية، لا بد لها أن تحظى بمساندة شعبية واسعة على المستوى الوطني والاقليمي والعالمي مما لا تستطيع فعله المبادرات الفردية على المستوى والنطاق نفسه. وللأسف، السلطة الفلسطينية الحالية ليس لديها مشروع أو برنامج ثوري، وهي تسير على درب بلا أفق، أو «طريق اللا-عودة!». هذه السلطة مدمنة على المفاوضات وحل الدولتين فقط. وهي مشاريع محصنة ببنية تحتية قوامها الأجهزه الأمنية، والتنسيق الأمني، وجيش من المنظمات غير الحكومية. وما الرد الإيجابي على مقترحات باريس الجديدة للمزيد من المفاوضات إلا خطوة أخرى في الطريق الخطأ. فهذه المفاوضات العبثية ما هي إلا جرعات في الأوهام، وغطاء تتمدد من خلفه المستعمرات التي تسبب مزيداً من التنكيل والاضطهاد للشعب الفلسطيني.
يبقى السؤال: متى ستستطيع المقاومة اليومية للشعب الفلسطيني أن تُحدث تغييراً ثورياً وبنيوياً في هذا النظام السياسي؟ لا يمكن التكهن في المستقبل، ولكن ما هو أكيد أنه مهما حادت السلطة، أو حتى «حماس» عن الطريق الثوري، فإن الشعب الفلسطيني وحركات التضامن الدولية التي تنمو يومياً سيستمرون في السير في الاتجاه الصحيح - في الطريق الى فلسطين، حيث مواجهة النكبة - الخطيئة الأولى!
* مستشارة سياساتية في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة» واستاذة مشاركة في جامعة ويسترن ــ أونتاريو