اليمن.. واستعدادات الحرب المقبلة..بقلم: عبد الله زغيب

اليمن.. واستعدادات الحرب المقبلة..بقلم: عبد الله زغيب

تحليل وآراء

الجمعة، ١٣ مايو ٢٠١٦

لم تتوقف الساحة اليمنية طوال الفترة الماضية عن السير دوماً باتجاه واحد. فإعادة إنتاج الذات، وإعادة إنتاج الحالات بكامل جزئياتها، تبدوان دراميتين بشكل لا يُصدّق، وقد بات هذا التكرار يتحكّم بنسق الحدث بمقدماته وخلفياته ونهاياته، حيث تظهر «نخب» البلاد على شاكلة العاجز إلا عن الأكل من لحمه، الفاسد تحديداً. إذ غالباً ما يُعاد استثمار التناقضات «التاريخية»، لإنتاج «المضبطة» الأخلاقية الخاصة بالصراع الدائر بجزئياته قبل الصورة الكليّة، وهذا مردّه إلى الارتجال المعمّم على الجميع. فالمنخرطون في المعترك اليمني رتبوا الأدوات والأولويات، فيما المعركة تسير على قدم وساق. هكذا بدا التموضع وإعادة التموضع على مراحلهما المتعددة، أكثر تقلباً من أي نسخة سابقة من الحروب الأهليّة اليمنية، شمالاً وجنوباً، وكذا في النموذج الموحّد.
لا أحد من الهياكل المجتمعية والسياسية الوازنة في اليمن، يظهر نقصاً في الحماسة، اذا ما كانت الحرب على الأبواب. فالجميع هناك خَبِر النزال حتى امتهنه. كما أن البلد بنسخه المجزّأة والموحّدة، يبدو أكثر ميلاً نحو تمرير الحروب بأقل الخسائر «الجيوسياسية» الممكنة، طالما ان المناحي الأخرى، من كل العناصر ذات البعد الاستراتيجي، المكوّنة لمنظومة الاقتصاد والإدارة، أي «الدولة» بشكل عام، كلها أصبحت خاضعة للتغيير الدائم، مع أثر خفيف نسبياً على الحالة الكليّة للدولة المركزية. ما يعني أنه بإمكان صنعاء تخطي الحروب البينية والخارجية، بفعالية غير إيجابية، طالما أن العنصر غير الوحيد إنما الوازن والمعرّض لأخطار الحروب هناك، هو منازل المواطنين والبنية التحتية الضعيفة، وكل ما يُساهم برفع المديونية الحكومية.
من غير المنطقي افتراض أن لا ثمن للحرب في اليمن أم عليه. فالفاتورة البشرية قبل كل شيء، تعكس لا مبالاة بالدم يمارسها الجميع، وقلة اهتمام أو حتى تقدير للمناحي الاقتصادية الأخرى، كالتراكم في خسائر التجارة المحلية بما تشكله من ثقل اقتصادي أساسي، وتوقف الأعمال وارتفاع نسبة العاطلين من العمل. لكن أياً من تلك العناصر لم يشكل رادعاً «طبيعياً» وحاجزاً دون الحرب، في كل الصراعات التي احتدمت منذ الثورة على الإمامة المتوكلية في ستينيات القرن الماضي حتى «عاصفة» الحزم وما سبقها من «انقلاب» على الجهاز الرسمي الحاكم في صنعاء. وهذا لا يفترض خروج الحروب اليمنية عن خط المصالح المحلية والإقليمية، لكنه يرتكز الى قراءة «أخلاقية» أكثر ابتعاداً عن دوامة الممكن والمتاح، وصدامات المشاريع وغيرها من العناصر المكوّنة لآليّة صنع قرارات الحرب والسلم.
المعضلة المستعصيّة عن الحل، تكمن في قدرة اليمنيين الدائمة على إنتاج مقدّمات الحروب المقبلة، وهم في خنادق المعركة الآنية القائمة. وهذا يرجع بالأساس الى ارتكاز المعارك هناك على مجموعة منطلقات «عقائدية» أو «وطنيّة» شديدة العمق، لكنها كانت دوماً وما زالت مستورة بـ «غلافات» أكثر سلاسة، أن تصديرها السياسي والإعلامي في المرحلة الحالية مثلاً، يقوم لدى «الطرف الأول» على شعار إعادة الشرعية الى مكانها الصحيح في العاصمة صنعاء، بمساعدة مباشرة من «الأشقاء». فيما تقوم معركة «الطرف الثاني»، على شعار التحرّر من التبعية للسعودية وكذلك التخلص من تبعات المبادرة الخليجية، خاصة بضيفها الثقيل على صنعاء، الرئيس عبد ربه منصور هادي.
ملامح المعركة المقبلة تلوح من الجهة الجنوبية. وهذا افتراض قد يصل الى تقدير او توقع، من دون الحاجة الى قراءات معمّقة للواقع اليمني، خاصة مع استثمار «عاصفة الحزم» للتناقض الجنوبي ـ الشمالي «التاريخي»، في محاولة خلق بيئة حاضنة لعملياتها البرية، وكذلك تحويلها إلى قاعدة خلفيّة بعيدة عن معارك الاستنزاف المندلعة على الخط الحدودي الوهمي القديم، الفاصل ما بين الشمال والجنوب قبل وحدة «الارتباط» العام 1990. يضاف الى أثر «العاصفة» عامل سابق عليها، يكمن في إدارة سياسية سيئة أظهرها الحوثيون للملف الجنوبي، فضلاً عن انغماسهم التام في معارك «غير مجدية» أخذت في بعدها العام، طابعاً «مذهبياً» وكذلك «وطنياً» في بعض مناطق الجنوب وأبين تحديداً.
ينفخ «أهل» الانخراط اليمني بمشاربهم كافة في نار المعركة المقبلة، بفعل واعٍ أو عَرَضي. لكن المحصلة تبقى إنتاجاً للمقبل من الصراع، خاصة أن الأرضية قيد الصياغة لمرحلة ما بعد «عاصفة الحزم»، تبدو شديدة التعقيد. وهي أكثر قابلية للاستثمار من قبل «صناع الحروب»، طالما أن السعودية تتجه بما تمثل من ثقل في الداخل اليمني إلى ملاقاة الخصوم على مجموعة من الملفات الخلافية، التي تعود بالأصل إلى مرحلة ما بعد المبادرة الخليجية وصولاً الى اتفاق السلم والشراكة العام 2014. ما يعني أن «انصار الله» و «المؤتمر الشعبي» ومكوّنات الطرف الآخر، على استعداد لإنتاج «حل» عابر لخلافات وصراعات ما قبل «ثورة الشباب» العام 2011. وهو ما يُفضي بطبيعة الحال إلى إعادة إنتاج الأزمات هذه، إنما بمقياس ناري وواسع، طالما أنه استثمر بشكل مفرط في إدارة الصراع القائم حالياً.
أظهر البيان الأحدث لـ «المرصد اليمني لحقوق الإنسان»، والذي دان عمليات ترحيل قسري لمواطنين يمنيين، معظمهم من محافظات شمالية، من مدينة عدن الى تعز ومدن أخرى في الشمال، أظهر مدى هشاشة الواقع القائم، ومدى انفتاحه على احتمالات، يمكن أن تتخطّى حسابات كبار اللاعبين الداخليين والإقليميين، وتحوّل الحاضنة اليمنية الجنوبية الى «كتلة» عسكرية واجتماعيّة، تعمل وفق أجندة سياسيّة بدت خجولة في زمن ما قبل «الحزم»، إلا أنها أصبحت اليوم مشروعاً شبه متكامل. وفي هذا الوارد، يمكن للشكل وحده وبمعزل عن المعطيات الأخرى، تقديم صورة وافية لسرديتها قيد النشوء، كرفع أعلام دولة الجنوب السابقة، على مختلف المؤسسات التي يفترض بها تمثيل الحكومة اليمنية المركزية.
لن ترضى المكونات الجنوبية بالعودة الى مرحلة «الزعامة» التاريخية لعلي عبدالله صالح، وذلك يعني بحكم الضرورة، وبالتفسير الجنوبي، العودة الى مرحلة ما بعد هزيمة العام 1994، وانتهاء حلم «الدولة» الجنوبية لنحو عقدين من الزمن. فالحل «النهائي» اذا ما ابرم بين اطراف النزاع، سيتخطى وبشكل كبير «المشروع الجنوبي» المرتكز على فوضى الحرب الحالية، بما فيها من اندثار للدولة المركزية ونفوذها، وتحول غالبية قطاعات «الحراك الجنوبي» السلمي ميليشيات مسلحة ومؤدلجة. فبالنسبة لهؤلاء تبقى صنعاء، بمعزل عن ساكن قصرها، عاصمة «الارتباط» القسري بالتفسير الجنوبي المحلي. وبالتالي، قد يكون الجميع هناك «علي عبدالله صالح آخر» قائم أو قيد التشكلّ بالمنظور العدني المحليّ.