حلب.. وما أدراك ما حلب!

حلب.. وما أدراك ما حلب!

تحليل وآراء

الاثنين، ٢ مايو ٢٠١٦

بنت الأرض

حين قام ملك إسبانيا، خوان كارلوس والملكة صوفيا بزيارة رسمية إلى سورية وزارا دمشق وتدمر وصولاً إلى حلب 21-23 تشرين الأول 2003 وقعا في غرام مدينة حلب… من أسواقها إلى بيوتها القديمة إلى قلعتها الشامخة. لم يتوقف الملك والملكة عن إبداء إعجابهما ودهشتهما بهذا الإرث التاريخي الحضاريّ الذي قلّ نظيره في العالم. إذ أين تجد أسواقاً أسقفها قناطر من حجارة تقيك حرّ الصيف وبرد الشتاء بالإضافة إلى كونها أسواقاً تهب عليك منها نسائم وقيم وأخلاق الحضارات الكريمة المحبّة للإنسان والساعية إلى إسعاده بكلّ السبل. وبلغ العشق بالملكة صوفيا أنها عادت إلى حلب بعد تلك الزيارة لتحتفل بعيد ميلادها في حلب وأقامت في بيت المنصورية وتمت تسمية الغرفة التي أقامت بها بغرفة «الملكة صوفيا». والملك والملكة هما اثنان من مئات الشخصيات الثقافية والسياسية العالمية التي زارت حلب وعشقت هذه المدينة عمارة وتاريخاً وروحاً وشعباً مضيافاً كريماً ومحبّاً للحياة. فقد كانت حلب، أم الطرب والغناء والموسيقا، العتبة التي لا بدّ للفنان أن يتجاوزها كي ينطلق إلى مصر أو إلى رحاب الغناء والموسيقا العربية لأن الذواقة وشيوخ الكار هم في حلب حكماً، بالإضافة إلى أنها القلعة الصناعية الأولى في الشرق كله، ومنارة للثقافة والشعر، ومدرسة دينية تعتزّ بأنها كانت موطن الأنبياء والمفكرين منذ سيدنا ابراهيم الخليل عليه السلام الذي رفع يديه وقال: «اللهم طيب ثراها وهواءها وماءها وحببها لأبنائها»، إلى عبد الرحمن الكواكبي صاحب نظرية ثنائية العروبة والإسلام.
ما الذي حلّ بحلب اليوم ولماذا؟ إذ إننا نغمض أعيننا ألماً لأننا غير قادرين على رؤية حجم المأساة والألم والدماء البريئة التي تسفك على أرض حلب النبيلة الصامدة؟ من الذي يريد أن يلحق كلّ هذا الدمار بمدينة حلب؟ ومن السفاح الطاغية الذي يستمتع بمشهد الدماء وكل هذا الألم والعذاب الذي ينزله بأطفال ونساء ورجال حلب الصامدين والصابرين؟ وأين هم كل عشّاق حلب الذين مرّوا عليها ونهلوا من معين محبتها، أين هي أصواتهم اليوم غائرة في بطونهم لا نسمع لها صدى في أي مكان وأين هي منظمة اليونسكو من تراث حلب الذي هو تراث انسانيٌ لا يعوّض.
قد يقول قائل إن الصورة معقدة ولا نعلم ما الذي يجري في حلب ومن هذه الأطراف التي تلحق كلّ هذا الدمار والموت بالمدينة وأهلها. ولكن الجواب على هذا هو أن الصورة ليست معقدة بل بسيطة وواضحة، وهي أن هذا الإرهاب الذي يضرب مدينة حلب يتلقى المدد والعون والأسلحة والإرهابيين من الحدود التركية، لا بل من أردوغان شخصياً، الذي يريد بقوّة الإرهاب أن يعيد لنفسه مكانة في العلاقة الأميركية-الروسية وأن يكون جزءاً من الحل وإلا فإنه سيكون كلّ المشكلة وأكثر.
لأردوغان أطماع في حلب، غذته عمالة خونة الإخوان المسلمين للمخابرات التركية، كما له أطماع في ريف اللاذقية الشمالي، ولديه غيرةٌ وحسدٌ عثمانيين من قِدَمِ حضارة حلب، ولدى الأسرة الدولية نفاق منقطع النظير. إذ إن القرار 2253 الذي صدر تحت الفصل السابع ينصّ على محاسبة ومعاقبة الدول التي تموّل وتسلّح وتمرّر الإرهابيين، وها هي تركيا بقيادة أردوغان تفعل كل ذلك، والعقاب، أو الثواب بالأحرى، هو أن الولايات المتحدة تقوم بنشر صواريخها على الحدود مع سورية كي تحمي هؤلاء الإرهابيين من السلاح السوري أو الروسي. وقد يكون تمّ هذا الأمر أيضاً للتعمية على خرق الولايات المتحدة كل القوانين والشرائع الدولية بإرسال مئة جندي سيتبعهم آخرون لاحتلال الأرض السورية من دون التنسيق مع حكومة دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة، بل بالتنسيق مع عملاء وخونة وإرهابيين. كيف سيساعد في صدّ العدوان من يعمد هو ذاته إلى الاحتلال؟ وكيف سيساهم بحلّ سلمي وتسوية لحرب من يتدخل بقواته لفرض وقائع على الأرض؟. إذ كيف يمكن البحث عن تسوية على حين يعلن مسؤولون أميركيون أن واشنطن تنظر بزيادة قوات العمليات الخاصة المتمركزة في سورية؟ أم إن التسوية المطلوبة هي وفق المخطط الجديد للشرق الأوسط الجديد ولنشر الفوضى المدمِّرة التي بشرت بها السيدة كونداليزا رايس؟.
الحيرة في فهم ما يجري في حلب نابع من ازدواجية المعايير التي تتبعها الولايات المتحدة في مقاربة الشأن السوري. إذ في الوقت الذي تبدو وكأنها تنسّق بعض الخطوات مع روسيا ومع المبعوث الدولي من أجل البحث عن حلّ سياسي في جنيف فهي في الوقت ذاته ترسل قواتها لدعم حركة إرهابية انفصالية ضد منطق الجغرافيا والديموغرفيا وضد التاريخ وضد مصلحة شعب المنطقة والدولة، وفي الوقت ذاته تعيد الحرارة مع سفاح تركيا أردوغان من خلال نشر صواريخ أميركية على الحدود مع سورية، الأمر الذي استثمره الأخير لإرسال إرهابيين وصواريخ وأسلحة دمار ألحقت الموت والمجازر والدمار غير المسبوق بمدينة حلب وأهلها. هل يعقل أن يتشدّق مسؤولون كبار في دولة عظمى بالديمقراطية وحقوق الإنسان ثمّ يشعلون سعيراً على شعب آمن عُرف بحبه للحياة وعشقه العيش بأمان وأن يفعلوا كل ذلك من أجل الاستمرار في أحلامهم الاستعمارية والهيمنة على الشعوب ومصائر الشعوب ومقدّرات الشعوب؟.
ولكن حلب الصامدة، كما كل مدينة وقرية سورية، ستلقن الطغاة درساً لن ينسوه وستكتب لنفسها وأهلها أسطورة ستاليننغراد بعد أن تدحر هتلر القرن الحادي والعشرين.