انفتاح أوروبي وتفاهمٌ روسي أميركي: عندما يغرق جنيف في رمال تدمر

انفتاح أوروبي وتفاهمٌ روسي أميركي: عندما يغرق جنيف في رمال تدمر

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣٠ مارس ٢٠١٦

فرنسا – فراس عزيز ديب
عندما نستمع لموسيقا «نينوى» التي تتهافت الثقافاتُ المتعدِّدة لنسبِها إليها، علينا أن نُغمضَ أعيننا، ونحلِّق فوقَ قممِ التاريخ، لنرسم صوراً لمشاهد وبطولاتٍ قالوا إن الموسيقا توَصّفها، ننتقل معها من «السلام الروحي» حتى «مسار المعارك»، لنصلَ إلى «مشاهد الضحايا» وقد غطّوا رمالَ الصحراء. لكي يكتمل المشهد في مخيلتنا، علينا أن نوغِلَ في التاريخ، ونعود لزمنٍ لا نعرف عنه إلا ما تركه لنا من حضاراتٍ وأوابد وبطولاتٍ في السيّر والأساطير.
اليوم تبدلت الصورة، قد نستغني عن الموسيقا بكاملها عندما نغمض أعيننا، ونكتفي بسماعِ خبطات أقدامِ الشجعان وهي تُخرج الماءَ من رملِ الصحراء، دعوا بطولات التاريخ لكتبِ التاريخ، أو بمعنى أدق:
عيشوا معَ بطولاتٍ وهميةٍ كيفما شئتم، واتركوا لنا أن نكتبَ فصولَ تاريخنا كيفما نشأ، فلسنا مضطرين أن نتخيل الشجاعة، ما دامت الشجاعة بعدِّها وعَديدِها ماثلةٌ أمامنا، لسنا مستعدين بعد اليوم أن نعودَ في التاريخ، أبعَد من زمن الجيش العربي السوري وحلفائه، فالتاريخ يجب أن يبدأ من هنا… النصر في تدمر، هو أبعدَ من مسألةِ تحريرِ بقعةٍ ما من الترابِ السوري الطاهر.
علينا أن نعترفَ أن هذا الانتصار أكسبَنا معركةً إعلاميةً على المستوى الدولي، ماكُنّا لننتصرَ بها عبر أدواتنا الإعلامية وأسلوبنا الإعلامي الرثّ الذي أكل عليهِ الدهر وشرِب، تحديداً أن هذه المعركة أجبرت كبريات «الدكاكين الإعلامية» على المستوى الدولي للتعاطي معها بموضوعيةٍ، من بينها الاعتراف بأن «الجيش العربي السوري» يواجه الإرهاب، وأن الإستراتيجية العسكرية للحرب على الإرهاب تنطلق من التكتيك المُتبع بين سورية وأصدقائها، وليس من التكتيكاتِ الوهمية «للتحالف الستيني» التي تدّعي محاربة الإرهاب من جهةٍ، وتؤمِّن له الغطاء السياسي والمالي من جهةً ثانية.
أمّا على المستوى الميداني، فإن هذا التحرير سيسمح لقوات الجيش العربي السوري ليس بالتمدُّد في المناطق الصحراوية الشاسعة فحسب، وصولاً حتى الحدود العراقية، لكنها أيضاً ستكون جاهزةً لمعركتي «دير الزور» و«الرقة»، ليثبت للجميع أن ليس هناك شيءٌ اسمه (سورية المفيدة وسورية غير المفيدة)، ولعلَّ معركة «دير الزور» هي الأساس الذي يمكننا القول بعدها إن العد العكسي للذراع «الصهيو عثمانية» قد بدأ.
على المستوى السياسي، هذا الانتصار أربكَ حسابات مايُسمى بـ«معارضة الرياض»، إذ يمكننا الجزمَ بأنَّهم الوحيدون مع مموليهم في مشيخاتِ النفط وتركيا والكيان الصهيوني غير السعداء باستعادةِ مدينةٍ سوريّة بهذه القيمة الحضارية والإنسانية.
ليس ذلك فحسب، بل ما زالوا مصرين رغمَ الحرب الضروس بين «داعش» والجيش العربي السوري والحلفاء بأن «داعش» «صنيعةَ النظام» وأنه قامَ بتسليمه المدينة، وهنا نسألهم: إذا كان الأمر كذلك، لماذا هلَّلت قنواتكم والإعلام الداعم لكم لاستشهاد عدد من أبطال أحد التشكيلات المساند للجيش، فلماذا تناقلتم «بفرحٍ» نبأ استشهاد «مقاتل روسي» في تدمر؟
إضافة لذلك فإن «معارضة الرياض» تبدو وكأنّها لا تؤرشِف تصريحاتَها، فمنذ ماقبل التدخل الروسي في سورية وهم يتحدثون عن أن «النظام» يسيطر فقط على 18 بالمئة من سورية، فلماذا نفاوضه؟ الآن وقد استعاد الجيش العربي السوري والحلفاء ريفي اللاذقية وحلب بشكلٍ شبه كامل، وهاهي تدمر ومساحاتها الشاسعة تتحرَّر، ولازالوا على أوهامِ 18 بالمئة، فهل أن ساعةَ الحقيقة بالنسبةِ لهم ستدّق في اجتماعاتِ جنيف القادمة فيصحونَ قليلاً من أوهامهم؟
في واقعِ الأمر يبدو من المبكر الآن الحديث عن اجتماعات جنيف القادمة، لأننا لا نعرف إن كانت ستُعقد أساساً، والأمر ليس مرتبطاً هنا برغبةٍ سوريةٍ في التعطيل، فالتاريخ المبدئي لاستكمال الاجتماع قد يتعارض مع موعد الانتخابات التشريعية في سورية، لكن بشكلٍ عام لا يبدو أن لاجتماعات جنيف بعد اليوم ذات الزخم، وهذا مردودٌ لأسبابٍ عدة:
أولاً: أن «معارضة الرياض» ستبدو متأثرةً كثيراً بما تم الاتفاق عليه بين الروس والأميركيين خلال زيارة كيري الأخيرة لموسكو، فإذا كان الاتفاق أن لا مناقشة لمقام الرئاسة في المفاوضات الحالية، ثم أتبعها الدكتور «بشار الجعفري» بالقول إن «الجيش العربي السوري» ليس مادةً للتفاوض، إذاً على ماذا ستفاوِض «معارضة الرياض»! هل سيُفاوض «جورج صبرا» مثلاً للحصول على منصب «وزير الأوقاف»؟ حتى إعادة الحديث عن زيارةٍ قام بها مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية «جون برينان» إلى موسكو لمناقشة «مصير الأسد» انتفَت من مفعولِها، لأنها أساساً تمت مطلع آذار، قبل أن يزورها كيري.
ثانياً: يجب الانتباه لما أعلنه نائب وزير الخارجية الروسي لشؤون مكافحة الإرهاب «أوليغ سيرومولوتوف» عن التوصل إلى «اتفاقٍ عملي» بين موسكو وواشنطن لوضع القائمة الموحدة للمنظمات الإرهابية في سورية، هذه النقطة جوهريةٌ، لأن ثوابت موسكو من حيث تحديد التنظيمات الإرهابية لا تختلف عن ثوابت الحليف السوري. هذا الكلام ربما سيقود للكثير من الانسحابات في صفوف الإرهابيين على الأرض وفي «معارضة الرياض» ذات نفسها، تحديداً أن «داعش» و«النصرة» اللتين لا جدال عليهما يتمددان في ريفي إدلب ودرعا (على حساب التنظيمات المسلحة)، وإذا استثنينا المناطق التي يسيطر عليها هذان التنظيمان، ماذا سيبقى للمعارضة لتفاوضَ عليه؟
ثالثاً: ما يمكننا تسميته الجهل الكامل لمعارضة الرياض بما يدورُ في الخفاءِ من انفتاح جزئي أوروبي تحديداً على القيادة السورية. الأمر لم يعد سرّاً، بل بات مرتبطاً بأجندة أوروبيةٍ أدركت أن الأمر لم يعد فيه مجال للمماطلة، بل إن مصادر أمنية أوروبيةً ذهبت أبعدَ من ذلك عندما تحدثت أن المشكلة لم تعد بما يجري في سورية فحسب، وإنما هناك مشكلةٌ أخطر وهي ليبيا. ربما لن يطول الأمر حتى يستيقظ الأوروبيون على ماحذَّرهم القذافي منه، بأنهم لن يحتملوا قوارب المهاجرين إذا ماعمَّت الفوضى في ليبيا.
هم صمتوا تماماً عن المذابح التي تُرتَكب أسبوعياً بحق اللاجئين الهاربين من جهة السواحل الليبية باتجاه أوروبا، فإغراق المراكب كان يتم عمداً، لأنهم باتوا يجهلون تماماً ماذا تحمل، هل هم لاجئون أم إرهابيون استسهلوا الطريق نحو «بلاد الكفار»، تحديداً إن عمليات الإغراق تلك كانت تتم بشكلٍ يستغل غياب الاهتمام الإعلامي لما يجري في ليبيا، كونُ التركيز كله انصبَّ حول سورية، والآن باتوا بحاجةٍ للربط المعلوماتي بين ما يخطط له الإرهابيون في سورية وامتداداتهم الفكرية في ليبية. فهل إن زيارة وزير الخارجية «وليد المعلم» للجزائر مرتبطةٌ نوعاً ما بالزيارة التي قامَ بها وزير الخارجية الفرنسي، من منطلق أن الجزائر هي الدولة العربية الوحيدة القادرة على لعب دور صندوق الرسائل، وفي الوقت ذاته فهي معنيةٌ بشكلٍ مباشر بما يُحاك لمنطقة الساحل الإفريقي للمتوسط؟
لن يطول الزمن حتى نعرف، ولن يطول الزمن حتى ندرك أن الجميع بات يبحث عن خشبة الخلاص بالحدِّ الأدنى، تحديداً أن الانتخابات الأميركية باتت تحصيل حاصل، لكن هناك في مكانَينِ آخرين من أدركَ متأخراً أن العد التنازلي لولايته سيبدأ وصعود اليمين المتطرف ليس نزهةً أو مفاجأةً. زمن المفاجآت ولّى، إنه زمن «الحرب على الإرهاب»، هو تماماً كما «العلاج بالموسيقا» ليس له إلا أسلوب وحيد.. موسيقا تعزفها خبطات أقدام شجعان هذا العصر.
الوطن