الثورة وأوهام التغيير.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

الثورة وأوهام التغيير.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣٠ مارس ٢٠١٦

أنّى التفت إلى الإسلام في بلد وجدته كالطير مقصوصاً جناحاه، ويظن الكثيرون من العرب والمسلمين، والمتشائمون مما آلت إليه حالهم في الضعف والتفرق أن السبيل للتغيير هو الثورة، وهم لا يعلمون كيف ولا على من يثورون ثم لا يعقلون ما هو مفهوم فقه الثورة ومشروعياتها وما سيحصدون..؛ لأن كل ثورة – كما ينطق القرآن والتاريخ- لابد أن تسبقها حركة فكرية..؛ فإن الثورة تتضمن رفض واقع حياتي لمجتمع ما ناتج عن واقع فكري جماعي معين يتطلب من الناس تغيير ذلك الواقع الفكري للوصول إلى تغيير الواقع المعيشي الحياتي من الشكل المرفوض إلى الشكل المطلوب، ومقدار الاختلاف وزاوية التغيير تعتمد على مدى صلاحية الأفكار الجديدة التي لابد من زرعها في أذهان الناس من جديد، ومدى تقبل الناس واستعدادهم للتجاوب معها، وخصوصاً عبر أشخاصها الأكفاء علماً ومصداقية.. إننا نسمع بكلمة الثورة الإسلامية أو العربية، والمسلمون ومن معهم من التكوين العربي إنما يعيشون في العالم واقعاً حياتياً ومعيشياً متأخراً ناتجاً بالضرورة عن واقع فكري إسلامي وقلبي وخُلقي متخلف يعتمد على ما زرعه طواغيت كانوا بين المسلمين بمختلف توصيفاتهم خلال العصور الإسلامية المختلفة من أوهام، والوهم عدو العلم، ولم يدر هؤلاء الثوار- عرباً ومسلمين- الذين يطالبون بالتغيير لهذا الواقع الحياتي المرفوض أن يبينوا للناس بالحكمة والموعظة الحسنة - بعد أن يكونوا أهلاً للبيان- الأفكار القديمة البالية المطلوب تغييرها مع إظهار البدائل من الأفكار الصحيحة والتبشير لها بالحسنى والحكمة والموعظة الحسنة من أجل الدعوة إلى واقع معيشي جديد لتحسين أمور الناس من السيئ إلى الحسن ومع إقناع الناس بالحجة والبرهان وبالاحترام، وبالحوار الديمقراطي وليس بالسيف أو السلاح.. لأنه يستحيل تغيير الأفكار بالقوة، والله تعالى أقوى من الجميع: (بل لله القوة جميعاً) لكنه عندما يشاء تغيير الأفكار يرسل عادة الرسل للإقناع على مبدأ الحرية الفكرية، ومنع الإكراه في الدين، فمن شاء آمن، ومن شاء رفض وكفر، وهو حر، وهذه الحرية قدسها الرحمن، وعلى أساسها يتحمل كل إنسان مسؤولية اختياره؛ فالله تعالى لم يفرض على أي إنسان أفكاره ولا دينه بل منحه الحرية وحمله المسؤولية على اختياره..، وعندما أرسل الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون لم يطلب منهما قتالاً ولا عنفاً بل طلب سبحانه منهما أن يقولا له قولاً فيه لطف واحترام: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى؛ فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) 43، 44 طه؛ لأن الله تعالى- وهو أعلم بخلقه وبمصلحتهم- يريد أن يؤمن الناسُ به تطوعاً وحباً بعد القناعة العقلية والبحث عن البرهان، ولا يحب زيادة عدد المشركين به ظاهراً أو باطناً أو عدد المنافقين والمرائين الذين يتضاعفون مع وجود الإكراه في الدين، وقد أرسل لهم القرآن مع رسول اصطفاه وجعله مدى عمر الحياة رحمة للعالمين، وتوّجهُ بتاج: (وإنك لعلى خُلق عظيم) ليكون هذا الذوق والجمال والأدب هو الحامل للدين المبني على مبادئ وعقائد اختارها الرحمن لمصلحة الإنسان ومنفعته في الدنيا والآخرة؛ لذلك فكل الثوار في مظلة هذا القرآن أو الإسلام الذين يطالبون بتغيير الواقع الحالي مطالبون أن تكون معهم أفكارٌ بديلة وخطة وبرامج منظمة وموحدة وقوية بقوة أدلتها ودلالاتها وبحرصها على الحرية القلبية والكرامة والأدب، وحفظ جميع الحقوق ورعايتها للوصول بتلك الأفكار والتبشير لها علناً بالحكمة والموعظة الحسنة بين الناس، أما أن نرى ويرى كل ذي بصيرة أن قوام الثورة يجب أن يعتمد على التآمر والأسرار ذات المآرب الانتهازية مستندين إلى وسائل الإكراه والعنف والإرهاب والقتل وسفك الدماء البريئة؛ فهؤلاء لا يدعون في الحقيقة الواضحة إلى ثورة إسلامية أو غيرها غايتها الإصلاح وإنما يسعون إلى أنواع من المشاركات السياسية مستخدمين الإرهاب وسيلة من وسائل الوصول إلى السلطة أو لتخريب النظام والسلطة أو غوغائية تنفذ تآمراً استكبارياً وصهيونياً كما شهدنا وما جاء معه بعنوان وإملاء تتريكي وتسعودي وغيرهما، وهذه الثورة في الحقيقة لن يكون باستطاعتها تغيير شيء من واقع العرب والمسلمين إلا في المجال التقسيمي والطائفي والعنصري، وفي مجال الشكليات مثل الاسم واللباس وإطالة الذقون، وما تفرضه السلطة من الممنوعات والأوامر..
(يتبع)