هل تنزلق أوروبا للمجهول؟ .. بقلم: د.محمد الصياد

هل تنزلق أوروبا للمجهول؟ .. بقلم: د.محمد الصياد

تحليل وآراء

الجمعة، ١١ مارس ٢٠١٦

حتى الآن تبدو أوروبا حائرة وعاجزة عن استيعاب صدمة الموجات البشرية المتدافعة والمتدفقة على بلدانها دون انقطاع منذ مطلع العام الماضي، بعد أن فاق عدد النازحين إليها في العام الماضي وحده المليون نازح بحسب مفوضية الأمم المتحدة العليا للاجئين في جنيف، واستمرار تدفقهم بوتيرة أسرع، حيث وصل إليها أكثر من 131 ألف مهاجر عبر البحر المتوسط منذ مطلع يناير/كانون الثاني، أي ما يفوق العدد الإجمالي الذي سجل في أول خمسة أشهر من العام الفائت، وذلك بحسب الناطق باسم المفوضية يوم الثلاثاء 1 مارس/آذار الجاري.
نستطيع القول إن أوروبا، وإطارها التنظيمي التكاملي «الاتحاد الأوروبي» في حالة طوارىء، فقادتها ما إن ينتهوا من اجتماع حتى يتداعوا لعقد اجتماع آخر طارىء، يحاولون بصورة جماعية تضامنية التصدي لهذه الموجة العظيمة من اللاجئين الضاغطة بصورة خطيرة على المرافق والطاقات الخدمية وأسواق العمل والمستويات المعيشية لسكان بلدان الاستقبال في القارة العجوز. فتنفض اجتماعاتهم عن خلافات وانقسامات أثارت قلق رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك ودفعته للتحذير في 12 نوفمبر/تشرين الأول الماضي من احتمال انهيار معاهدة شينغن، حين عمدت كل دولة بصورة منفردة لاتخاذ خطوات وإجراءات أحادية الجانب للتصدي لهذه الموجة من الهجرة القسرية لمواطني منطقة الشرق الأوسط ضحايا الحروب في بلدانهم، من سوريا والعراق وأفغانستان خصوصا، وذلك على نحو ما اتخذته النمسا وألمانيا والمجر وسلوفينيا والسويد من خطوات لإعادة فرض الرقابة على حدودها، أو نصب سياجات شائكة لوقف تدفق المهاجرين اليها عبر البحر على متن قوارب مطاطية خفيفة أو قوارب متهالكة ومكتظة بأكثر من حمولتها، من سواحل تركيا المطلة على بحر إيجة إلى شواطئ الجزر اليونانية القريبة، ومنها إلى بلدان الجذب الأوروبية عبر البلدان المحاذية لليونان مثل المجر وألبانيا ومقدونيا وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا والنمسا، التي أصابتها موجة المهاجرين ودفعتها لاتخاذ إجراءات وقائية على نحو ما فعلت بلغاريا في العام الماضي بقيامها بمراقبة صارمة لحدودها مع تركيا واليونان، وهو ما اعتبرته نائبة رئيس وزراء ووزيرة الداخلية البلغارية روميانا باشفاروفا أنه ربما يكون «أشد رقابة تنفذها أية دولة أوروبية»، وذلك في مؤتمر صحفي يوم الحادي عشر من فبراير/شباط 2016 (وكالة أنباء شينخوا الصينية).
وعلى الرغم مما يتسم به عمل الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي، أي مفوضيته في العاصمة البلجيكية بروكسل، من منهجية وانضباط وفاعلية في معالجة القضايا والتحديات التي تواجه بلدان الاتحاد، إلا أن أداءها وأداء البلدان الأعضاء في الاتحاد، اتسم في هذه القضية بالاضطراب والتخبط وعدم الفاعلية. في البدء تطور الجدل بشأن تقاسم عبء اللاجئين إلى تقاذف اتهامات بالتقصير وتحميل المسؤولية لبعضها بعضا، حين رفض عدد من الدول الأعضاء مبدأ حصص توزيع اللاجئين، تلا ذلك التوافق على إنشاء صندوق لمساعدة الدول المحيطة بأوروبا على استيعاب اللاجئين والتخفيف عن كاهل الدول المضيفة عبر إتاحة فرصة العمل لطالب اللجوء أثناء النظر في طلبه. وعقد زعماء الاتحاد الأوروبي والبلقان لهذا الغرض قمة طارئة في بروكسل يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، ناقشت خطة من 17 نقطة لمواجهة تدفق اللاجئين وصدر عنها «الإعلان المشترك». ومن أبرز إجراءات وبنود ذلك الإعلان، تبادل المعلومات يومياً، وتقارير عن حركة التنقل على طريق البلقان، ومنع انتقال اللاجئين من بلد إلى آخر من دون إطلاع البلد الثاني. وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 عرض الاتحاد الأوروبي على الدول الإفريقية، في قمة مشتركة بالعاصمة المالطية فاليتا، القبول بعودة مواطنيها الذين يسلكون طرق الهجرة غير النظامية، مقابل زيادة الاستثمارات فيها.
المشكلة في جوهرها اقتصادية هذه المرة أيضاً إذا ما ترجمنا الديموغرافيا الى متغيرات اقتصادية تأشيرية. الكل يريد أن يفلت من استحقاق توزيع أعباء المشكلة. في هذا الإطار تمت «رشوة» تركيا بمبلغ 3.1 مليار دولار مقابل موافقتها على احتضان اللاجئين والإبقاء عليهم في أراضيها وعدم السماح لهم باستخدام سواحلها للهجرة الى أوروبا. وفي محاولة جديدة، تم اللجوء لسياسة العصا والجزرة مع اليونان التي أصبحت محطة ترانزيت تغص باللاجئين القاصدين بلدان «الوفرة» الأوروبية. فبموازاة تهديدها بالإخراج من منطقة شينغن (26 دولة، اثنتان وعشرون منها دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وأربع دول أعضاء في رابطة التجارة الحرة الأوروبية (الإفتا)، وهي أيسلندا، ليختنشتاين، النرويج، وسويسرا)، المفارقة أن دول الاتحاد الأوروبي التي تطالب الدول الأخرى، مثل تركيا، بفتح حدودها أمام تدفق اللاجئين، هي التي بادرت لإغلاق حدودها في وجوههم بالجدران والأسلاك الشائكة، بما في ذلك ألمانيا التي عادت لسياسة الجدران.
الأزمة مازالت مستمرة، وهي تضغط بقوة على الساسة الأوروبيين القلقين ليس فقط من العبء المالي والاقتصادي والسكاني لاستيعاب هؤلاء المهاجرين، وإنما «تسرب وتسلل» أعداد غفيرة من الإرهابيين «النازحين» من جبهات القتال في سوريا والعراق خصوصاً. ثم إن هذه الأزمة يمكن أن تتفاعل في حال استمر تخبط وانقسام الأوروبيين إزاء المشكلة بتغليب الحلول الفردية على الحل الجماعي الذي اعتادت عليه كمجموعة، ويمكن بالتالي أن تفضي لتصدع أحد أبنية الاتحاد الأوروبي وهو نظام شينغن الذي نجح في تحويل مجموعة كبيرة ورئيسية من بلدان القارة إلى سوق واحدة مفتوحة على بعضها بعضا، تجني منها شعوبها عوائد مالية واقتصادية لا تعد ولا تحصى، ما قد يُؤذن بالدخول في المجهول مع غلبة حلول الخلاص الفردي على الحل الجماعي.