الشَّعْرُ الطّويل.. بقلم: محسن حسن

الشَّعْرُ الطّويل.. بقلم: محسن حسن

تحليل وآراء

الخميس، ١٠ مارس ٢٠١٦

الوطن هو العنوان، ومكان الوجود، حيث يُعرف الإنسان، ويُدَلُّ عليه، ويُعطى كُلُّ ما يُهدى، وما يأتيه وما يُرسل إليه، في مكان وجوده، في الوطن. ومن فقد وطنه، ضاع، وأصبح مجهولاً، وفقد عنوانه...
بين الوطن وأبنائه، علاماتٌ مُتشعِّبة، مُعقَّدة، فالوطن يُحبُّ أبناءه، ويوزّع عليهم، بحنوٍّ ومحبّة، هباته وعطاياه.
وأبناؤه ملتصقون، مُتجذِّرون به، يفتدونه، ويدافعون عنه، يشكرون هداياه وعطاياه، ويتحدثون بنعمائهِ، وسخائه، وكَرَمه ولكُلِ إنسان هواياته، وأشياؤه التي يُحبّ، في هذا الوطن، ويجب أن يُنظرَ إليها بعينيه لا بعينّي غيره..
أبناء الوطن يحبّون هداياه، ويعشقون عطاياه، لأنهّا ذكراه، وتعبّر عن محبته، وحنوِّه، وحنانه..
شَعْرك الساحر الطويل، من أعطياته، ونعمِهِ، وهداياه، النّادرة، الغالية.. جدّدَ لي حُبّي، وبرقّةٍ وحنوٍّ، لامَسَ قلبي، وأخذ بيدي للجلوسِ – احتراماً وخشوعاً، شاكراً - بين يديِّ ربّي.. فسجدتُ.. وشكرتُ... وتحدّثت... بنعمائه – كما أمر...
واليومَ، سأتحدّث عن لمساتِ حنان شَعْرَكِ ورقّةِ رفقته، وطيب عبيره، في عيد ميلاده... عرفته شَعْراً طويلاً طويلاً، شلالاً ونوراً، وجمالاً وربيعاً، عشتُهُ فتنة، وشباباً وعطراً، ولمستُه حريراً، حريراً، أراني سحراً، وعلّمني شِعْراً، وكلّمني همساً، وسَهِرَ على راحتي عمراً... أخذ بيدي... مررنا بحدائِقِ حُبٍّ، وبساتينِ فرح، حيث الألوان، والأشجار، والزهور، والعبير... وفوق تلك الحدائق والبساتين، غيمةُ عطرٍ، تحنو عليها، وتداعِبُ شَعْرَها، وتسقيها، وتبتسم لها،لا تبخلُ ولا تَضِنّ... وجدّتُ نفسي، في حدائِقِ عِشقِكِ، وبساتين حُبِّك.. وقد زُودتُ.. بوثباتِ شَبابٍ، ودفقاتِ أملٍ، وفيضِ نشوةٍ، مُستمتعاً، بالظّلال، والخضرةِ، والشمس، والدفءِ، وإيماءاتِ السعادةِ، وأنغامِ الطيّورِ، وحفيفِ الشجر...
شَعْرُكِ، كان النّخلةَ، الأكثر ارتفاعاً، وشموخاً، أنظر إليها، بفخرٍ واعتزاز، وحبٍّ،... والياسمينُ الدمشقيُّ، الْعَبقُ، الغنيُّ، العامر بالياسمين، والمُفْعَمُ بالخضرةِ، الزّاهي بالبياضِ، والفيّاضُ بالعبير، «يُعربش» على ساقها، يكسو عُريها، بثوبه الربيعيّ الأخضر، الزّاهي، الموشّى، بالبياضِ زهراً، وبالربيعِ شباباً، وإشراقاً، وبطيبه الفيّاض عبيراً، يغسِلُ قدميها، بأندرِ الطيب، وأطيب العبير... مشينا في الدروبِ الطّويلة، حكى لي فيها، أطول الحكايات، وأحلاها، وتنبّأ لي بتمعُّنٍ، عن أحلامِ تتحقَّق، وأمانٍ ستأتي، دانيَّة القطوفِ، وأفراحٍ ستعُمُّ تحت الشمس وضوءِ القمرِ... نجَّم وفسّرَ لي أحلاماً بعبقريةٍ واقتدار، وبَشَّرَ بالآمالِ والأمنياتِ، وكان شفافاً، صادقاً، ودوداً متفائلاً، نشيطاً، خلاقاً.. سقاني خَمرةً مُعتّقَةً، بحنوٍ، وهدوء، بكؤوس مملوءة حتى النّصف، أو اقلَّ من النّصف، تسري نشوةُ سُكْرِها، حنونةً، ساحرةً، تُسيطِرُ عليَّ، بيسرٍ، وطواعيّة، وتأخذني كالنّعاس طوعاً، وكُرهاً، واستسلاماً إلى أحضانِ النّومِ، حيث الحُلُم المُنتَظِرْ... حَلقَ بي في سماءِ زرقاء، صافية، موحيةِ، رائعة...
حنا عليّ، أهداني معطفاً في البردِ، ومظلّةً في المطر، وأماناً في العواصِفِ والأنواءِ.. جنّبني البرد، وحماني من الأنواء، والعواصف والمطر، ومنحني الدفء والأمان، والاكتفاء.... لا عريَ ولا جوعَ، ولا ظمأ.. عاش معي، لطيفاً، رقيقاً، جميلاً، ضوءاً في عتمةِ الطّريقِ.. وفرحاً في سني العُمُر، وسعادة، وَغِنىً.. أراحَ النّفسَ، وشنّف الأذن،
وأسعد العين.
جلسنا معاً على مفارق دروب الحياةِ، ومحطّاتِ واستراحاتِ العُمُر.. فغنّى فرحاً، ورقص ابتهاجاً، وأسكر حناناً وخمراً، حكى وأسعد... وعزف فأبكى، وأضحك..
حكى لي أحلى الحكايات، وأجمل القصص،... عزف لي ألحان حزن، فأبكاني، وألحان فَرَحٍ، فأضحكني، وأسعَدَني، وأدخلني دنيا جميلة، هي والجنّة سواء... دخلتُها بنشوةٍ، وشعور جميل طاغٍ، لا أحلُم بعدَه، بشيء.
دخل شِعرُكَ إلى جوار قلبي..!! مُتسلِّلاً لطيفاً مُهذباً، هادئاً، فأصبحَ قلبي بجواره....!! نظراً إلى بعضهما، بلهفةٍ وشوق، وفرح، كطفلٍ ضائعِ جمعه القدرُ - فجأةً - بأمّه... ذهبا معاً، مشاوير ألفةٍ، ومحبّةٍ تُشبه ما رويَ، وقِيلَ، عن الجنّة...
نسي قلبي مكانَه، ولم يَعُد إليه، وبقي بجوارِ شَعْرِكِ، حبيبه السَّاحر، الجميل، الطويل.
عاشا معاً، كطفلينِ شقيينِ، مشاغبين، يشاغبان، ويلعبان سَعيدين، ولا يتعبان.. يمشيان جاهدين، باتّجاه السراب، ليملأا الإبريق الملونِ الذي يحملانه، من ماء السرابِ
اتّقاء الظمأ.
عَشِقتُه، شَعْراً، طويلاً، طويلاً، وكنت أسافر في روعته وثناياه بعيداً، بعيداً، وأعيشه، ضوءاً وشباباً، وأريحاً، وأراه، جدولاً، وخضرة، وربيعاً.
لِشَعرِك الطويل قصّة في عمري، وبصمة في قلبي، ولوحة، وشلال، وغابةُ
في عينيّ.
يذكرني بالشِّعْرِ، فكلَّما قرأت بيتاً من الشِّعْرِ، ولم أجد بداخله منه شَعْرَةً طويلةً، تَخرجُ راقصة، فَرِحَةً، تبتسمُ وتلهو وتنتشر عبيراً، وتتضوّع عطراً، وطيباً، لا أَعتبره شِعْراً..
شَعرُكِ الطويلُ، والشِّعْرُ وجهان لعملةٍ واحدة، لجدولٍ واحدٍ، لشلالٍ واحدٍ، في كلُّ منهما، موسيقا صاخِبةً، وضجيجٌ، وهدوءٌ وصمتٌ، وشبابٌ متوثِبٌ، مُتَجدِّدٌ، وآلافِ الصورِ الجميلة، واللوحاتِ الفنيِّةِ النادرةِ، الساحرةِ الرائعة.
عشت معه عُمراً، وحياةً، ودنيا بكلِّ عوالمها، بليلها ونهارها، بشتائها وربيعها، بصيفها وخريفها، بكَرمِها وبُخلها، بآلامها وأفراحها... عُمراً، بكلّ معنى العُمر.
عندما أصبحتُ أملك حبيبتين، صاحبة الشَّعْر الطويل، التي ما برحت خيالي، وصاحبة الشَّعْرِ القصير، التي ما زالت بين يديّ، وماثلة أمامي، عرفتُ أن القدر، أحياناً قد يمنح الإنسان أكثر ممّا يُريد.... عندما منحني حبيبتين بدلاً من حبيبة واحدة، وعشت بينهما عُمراً، عِشتُ الحُلُمَ حقيقةً، والحقيقة حُلُماً، واحْترتُ، وتهتُ بينهما، أيهما أجمل؟! وعرفتُ بعد عُمُر أن الحبيبتين كانتا حبيبةً واحدةً فقط، هي أنتِ يا حبيبتي.
فاجأني المِقصُّ الغادر فأردى الشَّعْر الطّويل، الطّويل قصيراً، قصيراً، وأصبحتُ أتذكّره طويلاً، وأعيشُه قصيراً، بكيتُ الطويلَ الذي رَحَل، وعشت مع القصير الذي حَلَّ ونَزَلَ، أحنُّ إليه طويلاً، وأعيشُه قصيراً، ولا مجالَ للحياةِ من دونه، فهو جدولي الوحيدُ، وكنزيَ النّادِرِ الفريد، وبقيّة زجاجة العُطر الذي سُفِحَ.
شَعرُكِ الطويلِ قد غادرَ وَرَحَلَ: كوعاءٍ من زجاجٍ، مُعشّقٍ، قديم مُزخرفٍ، مُلّونٍ، نادِرٍ، تحطّم وانكسر، لا يصلحه الزمن ولا يعيده القدر.
بفقدِهِ، فقدتُ رفيق قلبي وعُمُري، فقدت حدائقي، وغاباتي، وواحاتي، وياسميني، ونخيلي،... فقدتُ الجداولَ والينابيع والصبح، والنُّور، والربيعِ والموسيقا، والأفراحَ والأحلام...
فقدتُ المؤنس الصديقِ، الذي كان يقلّب لي صفحات العُمُر، والتّاريخِ، ويحكي لي قصص الماضي، وعن عطايا المُستقبل. وهباته.
أصبحت بفقده، وحيداً، فقيراً، أشتاقه شوقاً مُحرِّقاً، أراهُ أمامي وأحلُمُ بهِ، يقتربُ منّي ويدنو.
وأخلدُ إلى هدوءِ ذكراه وصفاء سماءِ الذكرى، المُقمرةُ، المُوحية الهادئة،... يأخذني الخَيَالُ بعيداً.. إلى الماضي، فيُريني شَعْرَكِ الطويلَ زنبقاً طويلاً وشَعْرَكِ القصيرُ أقحواناً قصيراً، وزهر الحدائقِ الملوّنِ مُتفتّحاً.. وضاحكاً.. وجميلاً.
وأقِفُ في رحابِ الذكرى، صامتاً، حزيناً، باكياً، شاكراً، مُعترِفاً بنعماءَ، وعطاء وسخاء وكبرياء وعظمة، ومقاومة، وصمود، هذا الوطن.
وأتذكّرُ الشَّعرَ الطويلَ الذي فَقَدتُ والأعْطِيةَ النّادرة التي ضيّعتُ، والحياةُ التي فَقَدَتْ بعده كلَّ إشراقاتها، وابتساماتها وتفاؤلها، وجمالها، وبهجتها، والظلامَ الذي خيِم بغياب الشّمس، وكلُّه غادر ولن يعود...!!!
سأبحث طويلاً عن المِقصّ الذي غدرَ، وعندما أعثر عليه... سأقتله، وأذيقه الموت
– صَهْراً - حتى لا يعود لمثلها - غَدْرَاً - ولا يقصّ مثله شَعْراً، وأقف على مفارق دروب العُمُر متسائلاً، مُحتاراً، عن العطر الذي سُفِح، والنّور الذي حُجبْ، والأملُ الذي فُقِدَ، والربيعُ الذي رَحلْ... والشَّعْر الذي اُغتيلَ.
وهل المِقصّ، هذا، بالشَّعْر غَدَرَ، أم الزمنُ شاء، والْقَدَرُ، أم الله، كان قد كتَبَ، وقدَّرَ واَمَرَ..؟!! وأبقى تائهاً، حائراً، في صحراءِ العُمُر، أفتّش بحرقةٍ ولوعةٍ، عن ذاكَ الشَّعْر.