مسرح المعرض ودهشة الذكرى.. بقلم: إسماعيل مروة

مسرح المعرض ودهشة الذكرى.. بقلم: إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الاثنين، ٧ مارس ٢٠١٦

أدركت كما أدرك جيلي حفلات مسرح معرض دمشق الدولي التي كانت تقام على هامش معرض دمشق الدولي في المسرح الأكثر عراقة وجمالاً وبهاء، وربما ليس من المصادفة أن تقام دار الأوبرا إلى جواره، ومعروف أن دار الأوبرا، وفي أي مكان في العالم لا تستضيف سوى المتميز الملتصق بالكلاسيكية والعراقة، وإن خرجت لاعتبارات وظروف عن هذه القاعدة، أقيمت دار الأوبرا إلى جوار مسرح هو الأكثر شهرة وتاريخاً في سورية، هو مسرح المعرض المكشوف، هذا المسرح استضاف وتر الخلود الأبدي فيروز في معظم مسرحياتها، بل إن بعض المسرحيات أعدت لحفلات المعرض، وكان عرضها الأول في هذا المسرح، بل إن موسم المعرض كان يشكل شيئاً لفيروز والرحابنة، وللمتذوق السوري الذي يمضي سحابة وقته متجولاً في أجنحة المعرض، ليدلف من متعة إلى أخرى.. وفي هذا المسرح وقف الكبار، وقدموا حفلاتهم الجميلة للتاريخ، ففي أول حفل بعد إعادة توزيع: أهواك، أول مرة كان مسرح المعرض يحتضن عبد الحليم حافظ في آخر حفلة قدمها للجمهور السوري عام 1976، وفيها غنى رائعة عبد الوهاب نبتدي منين الحكاية، وأهداها لعبد الوهاب الذي كان يقضي الصيف نفسه في بلودان، وما بين بلودان مصيف عبد الوهاب الأحب، ومسرح المعرض درب مفروش بالنغم والود والحب. ولعبد الحليم أحاديث صوتية عن حفلات المعرض، وتلك المشاوير الممتعة من المعرض إلى ساحة المرجة (الشهداء).. وعلى هذا المسرح شدا الكبار وتزاحموا للحصول على حفلة، وأذكر أن آخر حفلة واجهت فيها جمهورها، قدمت فايزة أحمد عام 1983 أجمل حفلاتها، وغنت رائعتها (أيوه تعبني هواك وياك) وباقة من أغنياتها، وعلى الرغم من تعبها وإحساسها بالمرض، فقد أخذت من هواء دمشق وبردى لتقدم تطريباً وآهاً تميزت عن كل حفلاتها، وفي مسرح المعرض تجاوزت حفلتها الأشهر في سينما الأندلس بالكويت التي قدمت فيها (أنا قلبي إليك ميال) بتوزيع جديد، في دمشق، وعلى مسرح معرضها قدمت أفضل ما لديها قبل أن تغادر دمشق، ومن ثم تغادر الدنيا..
ناهيك عن أعظم حفلات نجيب السراج وصباح فخري وشادي جميل وميادة الحناوي.. على مسرح المعرض قدمت ميادة الحناوي لأول مرة (أول ما شفتك حبيتك) لأحمد رامي، وقدمت أول مرة (ساعة زمن) لرياض السنباطي، و(نعمة النسيان) لفاروق سلامة.. وما أعظم تلك الأسباب التي يقابل فيها المبدع جمهوره، والجمهور يتذوق من دون شراب أو طعام، ويمارس طقس المسرح بكل تفاصيله، من وصلة واستراحة دعوة، من تطريب وسلطنة ونشوة تنتهي مع اقتراب خيوط الفجر الأولى.
إنه مسرح المعرض الذي كان المتابعون ينتظرون بالدور الطويل للوصول إلى شباك التذاكر، ويحجزون بطاقات قبل مدة طويلة من الزمن، ويحتفظون بالبطاقة بين أشيائهم الثمينة حتى لا تضيع، وتذهب متعة الفرجة والطرب والنشوة.. البطاقة التي لم تتجاوز خمساً وسبعين ليرة سورية يومها كانت ثروة للمتذوق، كانت كافية للمسرح والمعرض والفرقة والمطرب الكبير.. المسرح الكبير كان مستوعباً لفرقة موسيقية كبيرة من وزن الفرقة الماسية التي رافقت عبد الحليم حافظ، وكان يتسع لإشعاع الطرب العظيم، وكان موعداً للسوري سنوياً للقاء طرب من نوع مختلف وراقٍ.
على ضفاف بردى كان المنادي ينادي بصوت العظيمة فيروز، ورذاذ ماء بردى يعانق نور الوجوه، والأهل يصحبون أولادهم، ليأخذوا منشورات الطفل الملونة التي تقدمها أجنحة الدول الاشتراكية هدية من دون مقابل لكل زائر! يحملون علب البوشار والذرة، ويقضون أجمل الأماسي، وحتى السنوات الأخيرة للمعرض في موقعه القديم كان الناس يتلصصون على كبينة الإذاعة في الساحة منجذبين إلى صوت هيام حموي التي كانت تنقل الفعاليات مباشرة في خدمة ترويجية ثقافية لسورية قلًّ مثيلها...
كل البرامج التي تقدم الأغنيات والمواهب عجزت عن تقديم صورة تقترب من طزاجة مسرح المعرض وعفويته وحيويته، خاصة إذا داهم المطر والبرد إحدى لياليه، فامتزج جمال السماء بجمال الأرض والنغم.
وربما ساعد انتقال المعرض إلى مكان بعيد، وتحوله في جوهره إلى فعالية اقتصادية، وإهماله للجانب الثقافي في ضياع صورة ولا أبهى لدمشق كما هي.