أسرار العربية وأخبارها!.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

أسرار العربية وأخبارها!.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٩ فبراير ٢٠١٦

   أولمَ الشاعر والباحث العربي السوري بيان الصفدي وليمة عامرة مخصصة للأجيال الراهنة واللاحقة والتابعة؛ وليمة ثقافية، موادها تراثية ومطبخها معاصر ومائدتها "العربية". وقد دعا الصفدي لمجالسة الأجيال فيها كلاً من أبي الفرج الأصبهاني في أغانيه، وابن خلّكان في وفيات الأعيان، وياقوت الحموي في معجم الأدباء، ثم سيبويه والزمخشري، ثم ابن فارس في الصاحبي وفي الاتّباع والمجاوزة؛ واستحضر إلى مائدته أبا طاهر المقرئ في أخبار النحويين، وابن السكّيت في إصلاح المنطق وأبا هلال العسكري في الفروق اللغوية وفي التلخيص في معرفة أسماء الأشياء (الملاهي وملاعب الصبيان)، وأبا البركات الأنباري في الفرق بين المذكر والمؤنث، وابن قتيبة في أدب الكاتب وفي الشعر والشعراء ثم في عيون الأخبار، والصولي في أدب الكتاب، والصفدي – التراثي وليس المعاصر- في تصحيح التصحيف، والجرجاني في دلائل الإعجاز ثم في أسرار البلاغة، والزجاجي في أماليه ثم في حروف المعاني والصفات والمغربي في أدب الخواص، وابن الأنباري في الإنصاف في مسائل الخلاف، وابن جنّي في الخصائص، والسيوطي في المزهر، والهمداني في الألفاظ الكتابية، والثعالبي في فقه اللغة، وابن سيدة في المخصص، والبغدادي في خزانة الأدب، وابن دريد في الاشتقاق، وابن سنان الخفاجي وسر الفصاحة لديه، والجاحظ في البيان والتبيين، وابن الجوزي وما لديه من أخبار الحمقى والمجانين، وابن عبد ربه في العقد الفريد. وآخر رقاع دعوة الصفدي المعاصر كانت موجهة لابن عبد البر القرطبي بعنوان بهجة المجالس.
   وليمة بيان الصفدي هذه مكتبة في كتاب شديد الفطنة والذكاء، افتتحه بمقولة أبي حنيفة: " المكثر من النحو كالمكثر من غرس شجر بلا ثمر". ثم أشار الصفدي بيان إلى وجود مؤشراتٍ كانت تدلّ على معايير الفصاحة خلاصتها تلك العصارة المنتقاة الأساليب والاستخدامات اللغوية التي أوجدت ما يمكن أن يكون معياراً عاماً؛ ولابد من التمييز بين النظر إلى لغتنا –حسب الباحث- وفق الجمود اللغوي للتقليديين من النحاة وبين قوانين تطورها الداخلية. فنظام العربية حي، وقد ظلت –كما رآها صاحبنا هذا تتطور من غير أن يتغيّر نظامها، بل سار نحو الغنى على الدوام، واقتربت هذه اللغة أكثر فأكثر لتستوعب التحضر المتزايد في حياة العرب. وبصراحته المعهودة أشار الباحث الصفدي إلى واحد من مدعي التطوير والتغيير ولاسيما في قوله: "إن لغة الكتابة المعاصرة تعاني اليوم فقراً في المفردات..."!! ثم يلاحظ باحثنا الصفدي كيف يلاحق في أيامنا هذه – أدعياء الطهارة اللغوية الكتاب والشعراء ورجال الإعلام ويرمونهم بالركاكة لابتعادهم عن "التقعر"! وينقل بيان الصفدي قول د. كمال بشر: من البدائه أن لكل عصر لغته الفصيحة، وللغة كل عصر مقومّاته"... ولكن لا حياة لمن تنادي. ومن المهم الإشارة إلى أن ما رمى إليه الأستاذ الصفدي شيء له علاقة بنظام العربية، والإيمان بأن الفصحى خيار ثقافي وقومي، وهو خصم كامل لمن يروّجون لهدم نظام الفصحى، أو الاستهانة بما تشكله العربية من رابط ومحتوى لأمة كاملة، وأن الدعوات المحمومة للنيل منها ليست بريئة في الأغلب الأعم، بل إن الباحث من المؤمنين أنها جزء من مشروع ثقافي استعماري للتفتيت والتشويه والهيمنة لا نرفضه فقط بل نحاربه بكل ما نملك أيضاً.
لقد سعى الباحث في هذه المختارات التي انتقاها من الخزانة اللغوية العربية أن يقدّم ملامح عامة ومهمة للفكر النحوي وبعض أخبار أعلامه مروراً بشيء من الأخبار والطرائف. إن هذه المختارات التي انتقاها مع -القليل النادر من التصرف- من تراثنا اللغوي والأدبي تستهدف القارئ العام لا المتخصص، وجهد أن ينتقي من المواد أهمها وأقربها للفهم والذوق والدلالة، لهذا عني بانتقاء المادة الطريفة والمهمة التي تبعث في عقل قارئها أجمل الأثر عن لغته وقضاياها واستخداماتها، حتى تحبب القارئ بلغته وتربطه ببعض رموزها وتحفزه على السؤال والمساءلة، وتعرفه بعددٍ من أساليب العربية وغوامضها وأسرارها، وتعطيه فكرة عن التفكير اللغوي عند أجدادنا. ولم يترك كل ذلك من دون أن يملح هذه المختارات بكثير من الطرائف التي تسخر من التشدد اللغوي أو تعرض لأشكال من الحوادث الساخرة ذات العلاقة بقواعد اللغة وصعوبتها، وما تحمله من قدرة على بث المرح واللطف والتخلص والتفنن في التعامل معها.
فالقارئ يتنقل في هذه المختارات بين مسألة نحوية أو صرفية، إلى ترجمة لحياة لغوي، إلى مبحث طريف من مباحث فقه اللغة، إلى خبر ضاحك أو حادثة ساخرة، أو نموذج معجمي أو بلاغي، كل ذلك يمنح القارئ فرصة ليطل على مشهدٍ لغوي عام يعطيه فكرة مركزة عن الجهد اللغوي عند أجدادنا الذين أورثونا هذا الكنز، فهو يستحق منا أن نرعاه ونطوره، ونجعله عوناً لنا في مواجهة احتياجاتنا اللغوية الحديثة.