تقفعت يداه!.. بقلم: د. إسماعيل مروة

تقفعت يداه!.. بقلم: د. إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الاثنين، ٨ فبراير ٢٠١٦

قرأنا (كليلة ودمنة) من ترجمة عبد الله بن المقفع، وسيرته حفظناها، وما تزال الكتب تتناول سيرته، وفيما إذا كان هو من أعلن إسلامه، أو كان أبوه الأسبق إلى اعتناق الإسلام، وجلّ كتب التاريخ والتراجم تذكر أنه لقب بهذا لأن والده اتهم في دينه فعوقب حتى تقفعت يداه! وربما كان هذا السياق يلائم ما جاء في (كليلة ودمنة) من قصص هادفة جاءت على ألسنة الكائنات غير البشرية، وما تحمل من المرامي السياسية والفكرية والعقدية، وإذا كان الناقد أكثر عمقاً فإنه سيأتي على أشياء، منها أن الاختيار يدل على المختار، وعبد الله بن المقفع عندما اختار هذا الكتاب من التراث العالمي لينقله إلى العربية عن الفيلسوف (بيدبا) فإنما فعل ذلك لغضب منه تجاه السلطة الحاكمة، ولأنه لم يجرؤ على أن يقوم بالمهاجمة، وبالمجابهة الكتابية، حتى لا يناله ما نال والده وغيره من الزنادقة لجأ إلى الترجمة ليخلي مسؤوليته!!
وبما أن الاختيار يدل على المختار، فقد ترك ابن المقفع ما يدل على رأيه وعلى جملة قناعاته في هذا الكتاب، ولكن لم يعثر القارئ في كل الكتابات التي تصدت لابن المقفع أي دارس يتناول مشكلة الرأي وحرية الرأي، فإن خالف أحدنا السلطة في الرأي فهل يستوجب هذا الخلاف أن يقتل بتهمة الزندقة والكفر؟!
وهل يمكن أن تكون العقوبة بالقتل أو التعذيب، أو حتى تتقفع يداه، أي ينفصل الجلد عن الأنسجة واللحم، ليتم تبدل الجلد في مرحلة لاحقة، مع ما يرافق هذه العقوبة من ألم؟!
أهم ما استوقفني مذ كنت صغيراً وقرأت كليلة ودمنة، وسيرة ابن المقفع، تعبير تقفعت يداه، وقد قرأت القرآن الكريم، وفهمت أنه كلما نضجت جلودهم تم تبديل الجلود، ليكون العذاب أبدياً وسرمدياً، يعود الجلد ليعود العذاب، وسألت، وأسأل اليوم: من ذاك الذي أباح لنفسه أن يكون في موقع الإله ليعاقب عقوبته؟!
تعذيب حتى تتقفع اليدان، ولكن من أوقع العقوبة كان رحيماً، فلم يقم بفعل ذلك عندما تبدل الجلد!!
الموت والإماتة والنهاية والرحيل كلها طرق من اختصاص الرب، فهو الذي ينهي حياة الإنسان، وليس من حق أحد أن يفعل ذلك غيره، وإن حاول الكثيرون إيجاد المسوغات من أن الله المقرر والإنسان وسيلة لإنجاز هذا القرار! فكيف يبيح الإنسان لذاته أن يقتل أو يعاقب حتى الموت، وهو أدرى الناس بنفسه هو، وبأنه لا يقل زندقة عن ذاك الذي يقوم بتعذيبه وقتله؟!
الرأي رأي، يتصدى له المواجه بالرأي المضاد كما فعل الجاحظ عندما واجه الشعوبية، وأسكت أبواقها، ولكن كل العقوبات الأخرى التي تذرّع بها الحكام بقيت علامات إدانة مزعجة تلطخ تاريخ الحاكم والدولة!
ومع ذلك انساق العامة وراء حكم الحاكم، وحمّل هؤلاء الذين قالوا رأياً التهم التي أرادها لهم من اتهمهم، فاليوم هناك من يتحدث عن المقفع وابن المقفع، وكأن ما حصل له هو نتيجة طبيعية لما جنته يداه! أعود إلى هذه القصة، ونحن بعد كل القرون المتطاولة نقرأ الاتهام، نصدقه نبني على أساسه ومقتضاه، بل إن رسائل جامعية ودراسات بنيت على ما يمكن أن يكون تهمة وحسب، والمكتبة تكتظ بالكتب التي بنيت على هذا الأساس، وأعود إليها مستغرباً، فنحن أمام أحداث جرت في القرون الأولى من الدعوة الإسلامية، وهذا يعني أننا كنا أمام الإسلام الأكثر انفتاحاً واعتدالاً وقرباً زمناً وروحاً، فكيف تهيأ أن تصدر مثل هذه الأحكام في ذلك الوقت؟! وكيف سوّغ العلماء والقضاة متل هذه القضايا في الزمن المغرق بروح الإسلام؟!
ليس غريباً أن نجد اليوم ما نجده من تشدد وتعصب بسبب تطاول الفترة الزمنية، والتي قاربت مفهوم الفترة الفاصلة بين نبيين كما جاء في اللغة، مع أنه ما من نبي سيأتي! فبعد كل الغربة عن الإسلام وروحه ونقائه، وبعد الابتعاد عن يسوع وروحه، وحمورابي وزمنه، وموسى وجبل طوره، هل نستغرب أن يتم القفز على ما جاء في تلك التوجهات والشرائع؟! وإذا كان يسوع رمي، ومحمد أوذي، وموسى اتهم، وهم من هم فهل نستغرب أن يحدث شيء ما بأسمائهم وبتعاليمهم بعد كل هذا الزمن؟!
تقفعت يداه أم لم يحدث، أهم ما في الأمر أننا نتلطى وراء الشرائع لنمارس سلطة سياسية دينية تلغي الآخر وتوجهاته، ولا تناقشه، ولا تحاسبه بمقدار الغلط الذي كان منه!! وبقي ابن المقفع مقفع اليدين ما دامت الحياة والقراءة!