أي رسالة أدلى بها بيكاسو في لوحته غورنيكا.. بقلم: ندى الجندي

أي رسالة أدلى بها بيكاسو في لوحته غورنيكا.. بقلم: ندى الجندي

تحليل وآراء

الاثنين، ٨ فبراير ٢٠١٦

ثنائية الموت والحياة.. الخير والشر.. الأبيض والأسود لونان متناقضان يُفسر كل لون غموض الآخر، ثنائية أراد الفنان أن يجسد بهما عملاً فنياً يعكس فيه واقعاً مأساوياً، يؤكد فيه فكرة الموت، وهل يهيمن الموت على حياتنا، ويغدو حقيقة ظالمة إلا في زمن الحروب عندما تتنازع البشرية وتموت معها الإنسانية، فلم يُعد للحياة لون، فأي لون يكتسي حياتنا والموت يحيط بنا من كل صوب؟
غياب الألوان في اللوحة كان مقصوداً.. ولكن اللون الرمادي قد طغى بظلاله بقوة على اللوحة، اختاره الفنان ليعلن به حالة الحداد.. حالة الحزن العميق يصور فيه هول ما حدث، إنها لوحة غورنيكا Gurnica للفنان العالمي بيكاسو، جسد فيها ببراعة ودقة متناهية بشاعة الحرب لتغدو رمزاً فنياً عالمياً وشاهداً على التاريخ، تاريخ أسود من حياة الشعوب، وإنجازاً فنياً ومعلماً أثرياً نستقرئ فيه الحقيقة؛ فأي حقيقة تعكس لوحة غورنيكا؟
إنها أثر فني يتجاوز الواقع.. يتجاوز الزمان والمكان، بيكاسو جرد فيه انطباعاته، وترجم أحاسيس قد يعجز الكلام التعبير عنها.. إنها لغة مفرداتها الصورة.. لغة تواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل عندما ننظر للوحة للوهلة الأولى يتراءى لنا فوضى من الأشكال والصور، ولكن التبحر في خطوطها، أبعادها، وجوهها ندرك أنها فوضى مدروسة بعناية وهل تعكس الحرب سوى حالة الفوضى المدمرة؟؟
إنها صرخة ألم
إنها دعوة للإنسانية "أوقفوا الحروب.. أما آن لسيلان الدماء أن يتوقف!"
بوحشية قاتلة في عام 1937 قصفت طائرات حربية نازية (ألمانية وإيطالية) مدينة غورنيكا (شمال إسبانيا) مساندة لفرانكو (franco) قائد قوات القوميين الإسبان خلال الحرب الأهلية الإسبانية بهدف القمع والترويع ما أسفر عنه مئات القتلى من الأبرياء، بيكاسو أصابه الهلع لما حل بمدينة غورنيكا وقد طلبت حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية من بيكاسو عملاً فنياً يُعرض في الجناح الإسباني من المعرض الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة الذي أقيم في باريس أنْهمَ بيكاسو على العمل ليلاً ونهاراً، وقام برسم صور تحضيرية تمهيداً لدراسة التكوين الفني الذي يسعى لإنجازه بصورة منطقية يعكس فيه وحشية النازية الذي أودى قصفها بحياة 1654 إنساناً، فلنحاول تحليل محتوى اللوحة ونبحث عن طبيعة الصور المُعبر عنها وعلاقاتها.
العمل الفني ثلاثي الأبعاد يبدو على شكل هرم قاعدته الموت ممثلة بصورة المحارب المستلقي وفي قمته المصباح رمز للأمل وربما يكون وعداً بالانتقام.
الوجوه مشوهة من شدة الألم، الجسد أيضاً.. الأيدي، الأرجل، وهل تترك الحروب سوى أثر مشوه!
العيون تبدو على شكل دمعة، اللسان حاد وكأنه سكين يريد أن ينطق بالكلام القاطع وهل يتحول اللسان إلى سيف حاد إلا في حالة الشعور بمرارة الظلم!
من اليمين امرأة باهتة الوجه تصرخ وهي تحمل طفلها القتيل بين يديها.. عيناه فارغتان لا روح فيهما إنها صرخة ألم، إنها صرخة الحرية المميتة!
في السقف يوجد مصباح يرمز فيه بيكاسو إلى القنابل والشظايا وتصاعد اللهيب ما هو إلا صورة يعكس فيها هيمنة العدو، رمز لطغيان الشر.
وفي اللوحة رسم بيكاسو، الثور والحصان فما قصده من ذلك؟
أما الثور فوجهه صافٍ أمام هذا الرعب ينظر نظرة باردة وكأنه جامد الشعور لا إحساس لديه، قرونه حادة وآذانه تشير إلى عنف المواجهة.
الثور يرمز للوحشية ويمثل القوميين والثور يرتبط بثقافة الإسبان حيث تجري فيها كل عام مصارعة الثيران الوحشية!
الأم التي تحمل طفلها وكأنها تتحدى الثور حيث تتجه بعيونها إلى السماء حيث تنهال القنابل، رقبتها ممدودة وحنان يديها الذي تحتوي فيها ملاكها الصغير ما هو إلا صورة جمالية تبلور صرخة ألم تعبر عن رفض الظلم والعدوان.
سئل بيكاسو عما يرمز إليه باستخدام صورة الثور أجاب قائلاً: "الثور هو الثور لا علاقة له بالسياسة بالنسبة لي، إنه الظلام والوحشية.. ولكن ليس الفاشية".
أما الحصان المبقور وهو يمثل المحور الرئيسي في هذا التكوين الفني حيث يكمن في الوسط ما هو إلا رمز للشعب.. الشعب المعذب الذي جُسد فيه عذاب الحصان المصاب، ولكن المصباح فوق رأس الحصان!
يعتبر بعض نقاد الفن المحللين أن صورة الحصان المُعذب أشبه بصورة المسيح وهو يُصلب، ورمز الألم والمعاناة والتضحية ليكون بعده ولادة نور جديد.
على اليسار امرأة تصرخ وكأنها تقاسم معاناة الحصان، وامرأة أخرى تحمل في يدها الشعلة، ذراعها ضيق ولكنه يحمل بصيص ضوء باتجاه الحصان، أمل خافت من الدعم لمواصلة الكفاح فالشعب هو المحور، أما المرأة فهي التي تحمل الشعلة رمز الحكمة في المستقبل.
في زمن الحروب أليست النساء هي التي تسعى بحكمتها لإيقاف الدماء، تلعب دوراً في احتواء الأزمة!
وعلى الأرض محارب مقتول، يده مقطوعة.. صورة من صور مآسي الحروب التي لا يتحقق النصر فيها إلا بدماء الشهداء، فالسيف هو رمز يجسد فيه بيكاسو بطولة الفرسان الذين يقاتلون حتى الموت، وتشابك الجندي مع أرجل الحصان يرمز إلى اتحادهما في النضال ويبلور فكرة الموت من أجل الحرية.
حيث تنبت من السيف وردة صغيرة إنها شقائق النعمان التي ترتوي بدماء أبنائها.. إنها رمز السلام، لننظر إلى أسنان المحارب، إنها حادة وقوية ما هي إلا تعبير عن إصراره على الدفاع بقوة وإيمانه بما يدافع عنه.
ماذا عن لغة العيون؟
العيون جميعها تلتقي وتنشد النور.
العيون جميعها تتجه باتجاه المصباح باتجاه الأمل والنصر فقط، الثور اتجاه عينيه مغاير، يبدو وكأنه ينظر إلينا.. هل نتوجس منه نظرة تهديد؟؟ وكأن الفنان يحاول إدخال المشاهد في هذا العمل الفني!
وفي الظل حمامة.. حمامة السلام ولكنها تبدو في حالة يأس فما أسهل إشعال نيران الحرب ولكن ما أصعب إطفاءها.
تنقسم اللوحة إلى محورين والضياء أيضاً حيث يبدو القسم اليساري أكثر عتمة من القسم اليميني برأيكم أي رمز قصده بيكاسو يكون اليسار أكثر عتمة من اليمين؟؟
الحركة بعدة اتجاهات مجمدة.. الخط الأفقي يطرح مسألة الموت على عكس الخط العمودي الذي يمثل قوة الدفع باتجاه الحياة.
وهناك تعارض واضح بين المرأة على اليمين التي تتجه إلى الضوء وبين الثور الذي يدير ظهره للنور!
في الأسفل امرأة تعرج، قد أصاب قدمها جرح عميق يمنعها من المشي ولكنها تزحف باتجاه المصباح رغم عجزها إلا أنها تواصل السير نحو النور.
إنها تناشد الحرية رغم الألم فالنضال مستمر.
إنها تُجسد حالة إصرار على المقاومة رغم الآلام.
لوحة غورنيكا تكوين فني رائع يشكل خليطاً يجسد حالة الهدم والبناء باستخدام أسلوب التكعيبية والسريالية وانعكاس الأبيض والأسود الذي يجلب الاتساق إلى التكوين ويقابله اللون الرمادي التي يشوب هذين اللونين.
بقيت لوحة غورنيكا أربعين عاماً في متحف الفن الحديث في نيويورك، مات بيكاسو عام 1974 ومات الديكتاتور franco بعده بعام.
وفي عام 1981 نقلت اللوحة إلى إسبانيا وفق رغبة بيكاسو وعلقت في برادو في مدريد، اللوحة تجسد حساسية الفنان أمام مأساة الإنسانية، فالفنان يرى ما يعجز الإنسان العادي عن رؤيته ولكن هل يعكس فيها بيكاسو مضموناً جمالياً؟
وهل يجب أن يكون الفن فقط حاملاً رسالة جمالية؟
يقول بيكاسو "اللوحة لم ترسم لتزيين وديكور المنازل ولكنها أداة هجوم وأداة دفاع ضد العدو" فمعنى الجمال يحدد بالقيمة الفنية.
والإنسان هو محور لوحة غورنيكا، فلنحاول قراءة هذا الأثر الفني العظيم الذي حاولت إلقاء بصيص ضوء على خفاياه ويحتاج الكثير والكثير من الدراسة لبلورة عبقرية فن بيكاسو الذي قد نجد فيه محاكاة لآلامنا في هذه المرحلة العصيبة من حياتنا وتاريخنا، ونستقرئ منه حقيقة قد تكون غائبة عنا فالفن على حد قول هيغل "هو الوسيلة لمعرفة العالم".