حسرات.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

حسرات.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣ فبراير ٢٠١٦

لقد كان عمل المنهاج القرآني لحماية العالم من شر نفسه أن يزيل من العقل البشري حجب التضليل، لأن الخاسر الأكبر من شيوع ظاهرة اختلاط الصواب بالخطأ واندماج الحق بالباطل هو القرآن نفسه بوصفه رسالة لهداية الإنسان، حيث لا يمكن اكتشاف فحوى هذه الرسالة في مناخات الكذب والبهتان؛ فما من أمة فقدت هويتها عبر التاريخ إلا وكانت مسبوقة بغياب وعيها عن رؤية الحقيقة، كما هي من دون ظلم يغلو بها أو ينتقص فيها؛ كذلك يلفت القرآن إلى مصطلح البهتان بقوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) الأحزاب 28، وبذلك جاء تحريم الإفك وتحريم الاتهام على أساس الظن والشبهة في أكثر من آية كريمة تكشف عن خطر البهتان على سلام المجتمع وأمنه، وفي النصوص المفسرة أن مسلماً سرق في المدينة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فاجتمعت عصبية عائلة السارق على إلصاق هذه التهمة بيهودي في المدينة، وفي ظنهم أن مجرد يهوديته كفيلة بترجيح حجتهم في اتهامه، وجاؤوا بعصبياتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقناعه بالأمر، فأنزل الله على بنيه أربع عشرة آية في سورة النساء مطلعها: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً) النساء 105، لتبرئة اليهودي مع أن السارق مسلم والمتهم هو اليهودي، يومها تأسس مفهوم جديد للعدالة على الانحياز لقيمة العدل بمعزل عن تصنيفه على أساس ديني أو قومي.. وعلى هذه الإضاءة العاجلة أزعم أن المسؤولية في أزمة الواقع الراهن للحضارة المعاصرة المتلظية بأنواع الشقاء ليست مسؤولية النصوص؛ سواء الوضعية العلمانية- ولو كانت غير مؤمنة- أو الدينية القرآنية أو التشريعية، وإنما هي مسؤولية النفوس الموظفة والمكلفة على حسن أداء أمانة التوجيه والإرشاد في مفاتيح التربية ومفاتيح الخطاب الديني والثقافي أو الإعلامي، وعلى الأخص أن يوسّد هذا الأمر إلى أشخاص ونفوس ليست بأهلية، ولا بأهل يطمئن إليه هذا الوعي التربوي علمياً ودينياً وإعلامياً، أو هو في مقاس لا يتوافق أو يتقارب أو يتناسب فيه النص مع كفاءة النفس؛ وهذا على مستوى أكثر العالم ولكنه أعطى دلائله المخزية والموجعة في عالمنا الإسلامي والعربي، وقد كان عهدنا أنه صاحب هذه الأمانة الربانية في الهداية وفي العدل والصدق والرحمة للعالمين أجمعين من غير أدنى تفريق..، فلننظر إذاً في أي إصلاح إلى دقة اختيار النخبة من الأمناء على هذه القيم، وإلا فإن وضع أي إنسان غير جدير بهذه المهمات الخطرة، ليتوصف بها ثم ليُغشّ العالم به، وهناك علم بمَن هو أهدى وأحق وأقدر، فإنما في هذا كذب على الله ورسوله وخيانة لله ولرسوله ستتبعها خيانات وكذبات، ولا حاجة لتمثيلها، فالواقع ينطق بها!.. وعندئذ نستطيع أن نفسر كيف أن أزمة الوطن والحضارة إنما هي أزمة أخلاق، قد استشرت في البلاد والعباد عشية انحطام ميزان العدالة بوصفه المحور الذي تدور عليه رحى منظومة الأخلاق مجتمعة..، وهذه كلها فتحت السبل أمام أي باحث لينظر ما ولدت على خطاها من سلسلة الضغوط اليومية علينا، وعلى أوطاننا وعلى كل فرد مهم ومهموم فينا، ليعرف معنى المكائد التي تقود مخطط البهتان والافتراء على أمة رفضت أن تكون شاهد زور على ما يحدث أمام بصرها من تزوير للحقيقة في نكبات واحتلالات وقلاقل فتن، صُنعت لها قد قضت في المنظور العقلي على كل خيط وأمل في اجتماعها ووحدتها بما يمكن أن يتحمله مسؤولوها وحكامها وولاة أمورها من دون الشعوب كما رأينا في الدول التي تماهت مع (إسرائيل) ثم كانت وقود إحَن وإرهاب إجرامي كما شهدته سورية وغيرها لتعميق جميع أنواع الفرقة والطائفية والغش والثارات والأحقاد بين دولها وبين أبنائها، ولا حاجة إلى سذاجة معرفة من الرابح الأكبر ومن الخاسر الأكبر، كما علمنا لأن بيت القصيد وواسطة العقد في كل هذه الموجات والتيارات المتلاطمة أن تقضي هذه الأمة بأيديها على كل ثقافة أو فكر يتحدث عن المقاومة والممانعة وعن التقدمية الحضارية العلمية، وعن أي أمل في الاكتفاء الذاتي يهز لازمة التبعية للاستكبار، ومن ثمَّ لإضاعة كل مواثيق الأمان والسلام، ولقطع أي رابط يضبط ميزان العدالة على محور الأخلاق.. وليعشْ الجهل والجاهلون!!